سفينة محمد بن راشد الإنسانية... حين تصبح الرحمة سفينة والمتطوّعون أجنحة تحمل غزة
في صباح يوم إماراتي جديد، قد يختلف في تفاصيله، لكنه يحمل روح دبي المعتادة، عكست قاعة المؤتمرات في مدينة إكسبو دبي مشهداً استثنائياً، كشف عن الوجه الإنساني لدولة الإمارات، والحراك المجتمعي الذي يثبت أن صناعة المستقبل تبدأ من مبادرات عظيمة ومؤثرة، حيث شهدت إقبال المئات من المتطوعين ليكونوا جزءاً من تعبئة سفينة محمد بن راشد الإنسانية، تحت عملية «الفارس الشهم 3» التي تهدف إلى توصيل 10 ملايين وجبة لدعم الشعب الفلسطيني، بهدف تلبية احتياجاتهم العاجلة، وتخفيف معاناتهم.
استجابة لا تشبه أيّ استجابة... 6000 قلب في 24 ساعة
فحين دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الناس إلى الوقوف مع شعب غزة ، لم تمرّ الدعوة مرور الكلمات، كانت مثل دقة على باب القلب، وفي غضون يوم واحد فقط، سجّل أكثر من 6 آلاف متطوع، لم ينتظروا حافزاً، لم يسألوا ماذا سنفعل، ذهبوا لأن وجدانهم دفعهم إلى ذلك فقط. تدفقوا إلى مدينة إكسبو كما تتدفق المياه إلى مكان عطش. متطوعون من كل الإمارات، ومن مختلف الجنسيات، المواطن الإماراتي والمقيم، الأم والطفل، الشاب الكبير وأصحاب الهمم.
رسائل فرح إلى الشعب الفلسطيني
لم تكن مجرّد قاعة، بل نبضاً واحداً يتردّد صداه في المكان، نبض الإمارات حين تتطوع، صفوف طويلة من الطاولات، كأنها جسور تمتد بين دبي وغزة، أكوام من المواد الغذائية تنتظر أيادي تضعها في الصناديق بإتقان، يشبه إعداد هدية، وليس مجرّد مساعدات، نساء يمرّرن المواد كأنهنّ يمرّرن قلوبهنّ، رجال يرفعون الصناديق بثبات يشبه ثقل المسؤولية التي يحملونها، أطفال يركضون بين الطاولات مفعمين بالحماس، كأنهم يحملون رسائل الفرح التي افتقدها أطفال غزة منذ زمن.
رجاء داخلي ودعوات من القلب
وفي وسط كل هذه الضوضاء الجميلة، كان هناك رجاء داخلي أن تصل كل هذه الصناديق إلى من يحتاج إليها، لتنقذ روحاً، وتسند أماً، وتشبع طفلاً يبكي جوعاً، المشهد كما لو أنه لوحة مرسومة بالحب. منذ التاسعة صباحاً بدأت الأيادي تتحرك، خطوة بعد خطوة، كأن هناك إيقاعاً خفياً ينساب بين الجميع، أحدهم يضع الأرز، آخر يضيف الزيت، طفل يضع التمر بيد صغيرة لكنها مملوءة بالأمل، فتاة تلصق الصندوق وتضغط عليه بقوة، كأنها تقول: «هذا الصندوق لا بد أن يصل»، وفي كل ركن كان هناك شيء أبعد من العمل، كانت هناك مشاعر.
مشاعر المتطوعين
وصفت الطفلة هداية صالح مشاعرها، هي وشقيقها عبدالله، بالفخر، وأنها جزء من شيء أكبر منها، السعادة ليست كلمة، السعادة هي أن تساعد أحداً لا يعرف اسمك، ولا تعرف اسمه، ورسالتهما اليوم لأطفال غزة «أن لا شيء مستحيل».
دموع الأمهات
هناك أيضاً لاحظ الجميع دموع أم إماراتية تدعى سميرة علي، وهي تغلق صندوقاً، ربما لأنها تذكرت طفلاً جائعاً، حيث كانت ترى في الصناديق حياة كاملة لعائلة هناك.
اصطحاب الأبناء
أما عامر المدني فقد اصطحب ابنه معه كي يغرز في داخله قيم التطوع ومساعدة الآخرين، ويقول: «عندما يكون الوطن قائداً في الإنسانية، يصبح التطوع شرفاً. الإمارات علّمتنا أن قيمة الإنسان ليست في جنسيته، بل في حاجته. نحن اليوم لا نرسل غذاء نحن نرسل كرامة».
كما حمل الطفل يوسف صدقاً لا يحمله الكبار أحياناً، قال وهو يضع كيس المعكرونة «أتمنى أن يأكله طفل في غزة ويبتسم. عندما أرى الأخبار أشعر برغبة كبيرة في تخفيف ألم الأطفال الصغار».
مشاعر أم صادقة
كانت تعمل مريم الكتبي بصمت، ثم قالت كلمات لن تنسى: «أنا أم، وأعرف ماذا يعني أن تخاف على أولادك. كل صندوق أضعه أتخيّل أماً تفتحه وترتاح، ولو قليلاً. لو كان بيدي، لأرسلت قلبي كله لهم».
وبالنسبة إلى سيد زهير، فقد كانت تجربة التطوع لنقل الغذاء إلى أهل غزة «أشبه بشريان نجاة، لا لمن تصلهم المساعدة فحسب، بل لنا نحن أيضاً. فهي تعيد الإنسان إلى جوهره الحقيقي، وتذكّره بأن قيمة العطاء لا تقاس بحجم ما نقدمه، بل بصدق النية، ومساحة الأمل التي نصنعها في قلوب الآخرين. لقد أدركت، من خلال هذه المبادرة، أن العمل الإنساني ليس دوراً نؤديه، بل مسؤولية نختارها ونمضي بها بإيمان عميق».
رسائل صغيرة في الحجم، لكنها كبيرة في المعنى
في ركن آخر، كان طلاب المدارس يكتبون رسائل ترفق مع المساعدات. كانت الكلمات أبسط من أن تقال، لكنها أعمق من أن تنسى:
«نحن نحبكم... وألمكم ألمنا»
«أنتم الشجعان... وأنتم قصتنا»
«يا أطفال غزة... قلوبنا تحضنكم ولو لم تصل أيدينا إليكم»
هؤلاء الأطفال كتبوا الرسائل بأقلام ملونة، لكنهم كتبوا أيضاً بقلوب لم تتعلم بعد معنى السياسة، بل تعرف جيداً معنى الإنسانية.
حضور القيادة... حضور يعيد تعريف الإنسانية
الفعالية لم تكن مجرّد مبادرة، بل كانت إعلاناً صريحاً بأن القيادة الإماراتية لا تكتفي بمتابعة المشهد من بعيد. جاء المسؤولون، وقفوا مع المتطوعين، نظروا في أعينهم، وشاركوا بعض اللحظات. وقال محمد الشريف، المتحدث باسم «الفارس الشهم 3»: «كل صندوق هنا هو رسالة... رسالة تقول للناس في غزة: لم ننسَكم. ولن ننساكم».
الإمارات... تاريخ ممتد من العطاء لغزة
ما يحدث اليوم استمرار لمسيرة:
مساعدات غذائية بملايين الدراهم
مستشفى ميداني يشهد العالم بجهوده
شحنات طبية متواصلة
دعم إنساني لا يتوقف ولا يتردد
فحين تبحر السفينة، سيبحر معها دعاء شعب كامل. خلال الأيام المقبلة ستبحر سفينة محمد بن راشد الإنسانية، ستبحر من دبي لكنها في الحقيقة ستبحر من قلوب المتطوعين في الإمارات، ستحمل مشاعرهم بكل ما فيها من إنسانية.
* تصوير: السيد رمضان
