30 نوفمبر 2025

أول من أسّس أرشيفاً رقمياً للأزياء العربية... د. ريم المتولي: الزيّ هو السيرة التي نرتديها والهوية التي لا نخلعها

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

حين تتحدث عن الأزياء، تشعر بأنك أمام مؤرّخة تروي التاريخ بخيوط حرير، لا بحبرٍ على ورق، فالثوب العربي بالنسبة إليها ليس مجرّد ملبس يزيّن الجسد، بل ذاكرة نابضة تحفظ ملامح المرأة العربية وتفاصيل المجتمع، عبر الزمن. من هذا الإيمان العميق، أسّست الدكتورة ريم طارق المتولي «مبادرة زيّ»، أول أرشيف رقمي للأزياء العربية، والتي تعد جسراً بين الماضي والحاضر، يحفظ التراث الملبسي، ويعيد رواية القصص المنسية بلغة عصرية.

فبين الفن والهندسة والتراث، نسجت د. ريم رحلتها بروح الباحثة، وعين الفنانة، لتجعل من القماش مساحة للذاكرة، ومن كل تطريز حكاية، ومن كل قطعة نسيج صوتاً لامرأة كانت هنا، وما زالت حاضرة في ملامحنا وثقافتنا.

مجلة كل الأسرة

كيف وُلدت فكرة إنشاء أول أرشيف رقمي لتاريخ الأزياء العربية عام 2019؟ وما الذي دفعك إلى إطلاق هذه المبادرة الفريدة؟

انطلقت الفكرة من إيمانٍ عميق بأن الثوب العربي ليس مجرّد لباس، بل وثيقة، فالزيّ هو السيرة التي نرتديها، والهوية التي لا نخلعها، ومع تسارع وتيرة العولمة وغياب التوثيق العلمي، شعرتُ بالخطر على هذا الإرث، فقررت تأسيس أرشيف رقمي يحفظ الأزياء العربية بأسلوب معاصر، يجمع بين الفن، والتاريخ، والعلم.

ما الذي يجعل «مبادرة زيّ» مختلفة عن غيرها من المشاريع المهتمة بالأزياء في العالم العربي؟

«زيّ» لا تكتفي بعرض الأزياء كقطع فنية، بل تروي قصصها: من ارتدتها؟ ومتى، ولماذا صُممت بهذا الشكل؟ لتربط بين البحث الأكاديمي والرؤية الإنسانية، وتحوّل الثوب إلى لغة ثقافية تُعبّر عن المجتمع، وتاريخه، وذائقته.

ثوب إماراتي من مجموعة مبادرة زيّ - تصوير وليد شاه
ثوب إماراتي من مجموعة مبادرة زيّ - تصوير وليد شاه

كيف تمكنتم من جمع وتوثيق تلك القطع النادرة التي تروي مراحل تطور الزيّ الإماراتي؟

بدأ الجمع من خلال ثقة العائلات الإماراتية التي فتحت خزائنها الخاصة، فشكّلت تلك القطع النواة الأولى للمجموعة، ثم توسّعت الدائرة مع إطلاق المبادرة، وانتشارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث بدأ الناس من مختلف المناطق المحلية، وكذلك الوطن العربي، بالتبرع بقطعهم النادرة، فكل قطعة تُفحص، وتُوثّق علمياً، لتُضاف إلى الأرشيف كمصدر موثوق لذاكرة المجتمع الإماراتي والعربي.

مجلة كل الأسرة

وما أبرز التحدّيات التي واجهتكم في رحلة توثيق الأزياء الإماراتية؟

أكبر تحدٍ هو ندرة المصادر المكتوبة عن الأزياء العربية، ما جعلنا نعتمد على الروايات الشفوية، والصور القديمة، والمقارنة بين المجموعات الخاصة، وكل قطعة كانت رحلة اكتشاف قائمة بذاتها، ولهذا أدعو الجميع إلى زيارة موقعنا الإلكتروني لاستكشاف الأرشيف، وبرامجنا.

ثوب إماراتي من مجموعة مبادرة زي - تصوير وليد شاه
ثوب إماراتي من مجموعة مبادرة زي - تصوير وليد شاه

عشتِ فترة من الزمن بين نساء المجتمع الراقي في أبوظبي. كيف تصفين تلك التجربة وما الذي كانت تعكسه أزياؤهن؟

نشأتُ في ستينيات القرن الماضي في بيئة راقية تتسم بالبساطة، والجمال، والتكاتف، نسجت صداقات طفولة ما زالت تمتد حتى اليوم، وتجارب يومية مشتركة شكّلت، وما زالت تشكل، أساس معرفتي ووعيي الثقافي. كانت تلك المرحلة، وما تلاها، زاخرة بالرقي الهادئ، مثلت فيها العباءة والثوب المطرّز رمزين للهوية والاحترام، وليسا مجرّد ملبس، تلك المرحلة صاغت وعيي الثقافي، وجعلتني أدرك أن الأزياء مرآة لروح المكان والزمان.

أثناء لقائها بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
أثناء لقائها بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه "

التقيتِ بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، كيف برزت رؤيته الثقافية من خلال مظهره واختياره للزيّ؟

لم يكن لقاء الوالد المؤسس، طيّب الله ثراه، مجرّد لقاء فقط، بل كنت محظوظة بأن أراه ضمن إطار عائلته منذ طفولتي، وقد كان له تأثير مباشر وواضح في تفاصيل الزيّ الإماراتي، فقد كان المغفور له الشيخ زايد، يجسّد الهوية الإماراتية في مظهره قبل كلماته، فبثوبه الأبيض، وغترته، كان يحمل رسالة فخر، ووعي ثقافي عميق، وكان يحرص دائماً على أن ترتدي نساء العائلة الثوب الإماراتي عند لقائه بهنّ، خصوصاً ضمن محيط الأسرة اليومي، مؤمناً بأن الزيّ يعكس الفخر بالهوية والوعي الثقافي، وأنه في كثير من الأحيان أبلغ من أيّ خطاب.

من وجهة نظرك، كيف تسهم المبادرة في ترسيخ الوعي لدى الأجيال الجديدة بأهمية الزي الإماراتي؟

نحوّل التراث إلى تجربة حيّة من خلال المعارض التفاعلية، والورش، والمحتوى الرقمي، ليشعر الشباب بأن الثوب امتداد لهويتهم، فنحن نهدف إلى إلهام الجيل الجديد ليحافظ على أصالته ويجدّدها بروح معاصرة، من دون أن يفقد جوهرها الثقافي.

مجلة كل الأسرة

هل هناك تعاون بين «مُبادرة زيّ» والمؤسسات الثقافية في الدولة؟

نعم، نتعاون مع هيئات ثقافية، وسياحية، وجامعات، ومتاحف، لتنظيم معارض، وورش عمل، ومحاضرات، فهدفنا أن يبقى التراث حياً، ومتداولاً بين الأجيال، وأن نربط التراث المحلي بالسياق العالمي ليصبح الأرشيف جسراً بين الماضي والحاضر.

مجلة كل الأسرة

في رأيك، كيف تعكس الأزياء التحولات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي؟

الأزياء سجلّ حيّ للتغيرات الاجتماعية، فمن خلالها يمكننا تتبع تطور دور المرأة، ومفاهيم الجمال عبر العصور، وكيف تفاعلت المجتمعات مع العولمة، مع الحفاظ على ملامحها المحلية، فكل لون وتطريز شاهد على عصر، وثقافة، وقيم متغيّرة.

إلى أيّ مدى أسهمت الرقمنة في حماية التراث الملبسي العربي؟

الرقمنة ليست بديلاً عن الذاكرة، بل حارس لها، إذ أعادت الحياة إلى التراث الملبسي، وحوّلت القطع المهدّدة بالتلف إلى موارد رقمية متاحة للجميع، فعبر «مبادرة زيّ» أصبح بالإمكان استكشاف الأزياء والقصص التي تحملها من أيّ مكان في العالم، لتتحوّل إلى ذاكرة إنسانية مشتركة بين الأجيال.

المرأة الإماراتية حارسة التراث الملبسي ووجهه المتجدّد في آن واحد

كيف ترين دور المرأة الإماراتية اليوم في الحفاظ على الأزياء التقليدية وإعادة تقديمها؟

المرأة الإماراتية، اليوم، تمثل الجسر بين الأصالة والتجديد؛ فهي تحافظ على ارتداء الزيّ التقليدي في حياتها اليومية، وتقدّمه بروح معاصرة، من دون أن تفقد هويته. إنها حارسة التراث الملبسي ووجهه المتجدّد، في آنٍ واحد.

ما الذي شكّل ذائقتك الجمالية واهتمامك المبكر بعالم الأزياء والتراث؟

نشأت في أسرة تعتز بالفن والتراث، ودرست الفن الإسلامي والهندسة، وشهدت بدايات قيام دولة الإمارات، ومن النساء حولي تعلمت أن الأناقة ليست في الزخرفة، بل في الوعي بما نرتديه، ومعناه الثقافي والوطني.

ريم المتولي وابنتها ووالدتها في الزي العراقي التقليدي - تصوير مبادرة زيّ
ريم المتولي وابنتها ووالدتها في الزي العراقي التقليدي - تصوير مبادرة زيّ

هل هناك شخصية كانت مصدر إلهامك الأول في هذا المجال؟

والدتي هي ملهمتي الكبرى. علمتني أن كل قطعة قماش تحمل حكاية، وكل غرزة تطريز بصمة امرأة، ومنها تعلمت أن الجمال فعل ثقافة، وأن الحفاظ على التراث أحد أشكال الوفاء للذاكرة والهوية.

مجلة كل الأسرة

كيف تنجحين في الموازنة بين مسؤولياتك الشخصية وعملك البحثي؟

الموازنة بين الحياة والعمل ليست سهلة، لكنها ممكنة حين يتحول الشغف إلى أسلوب حياة، و«مبادرة زيّ» بالنسبة لي ليست وظيفة، بل شغف يومي، وامتداد لهدف أؤمن به، وأعيشه بكل تفاصيله.

ما هو الحلم الذي تتمنينه لـ«مبادرة زيّ» مستقبلاً؟

أحلم أن تتحول إلى مرجع عالمي للأزياء العربية، وجسر ثقافي بين الشرق والغرب. أريد أن تبقى قصص نسائنا منسوجة في ذاكرة العالم، وأن يستمر هذا المشروع بروح جماعية تحفظ التراث للأجيال القادمة، وتغرس الفخر بالهوية.