مهرجان تنوير 2025... رحلة ضوء وموسيقى تعيد اكتشاف الذات في صحراء مليحة
للعام الثاني على التوالي، تُعيد صحراء مليحة تعريف علاقتها بالفن والإبداع الموسيقي، حيث تتحول رمالها الذهبية مع انطلاق النسخة الثانية من مهرجان «تنوير» إلى مساحة مفتوحة للدهشة والإبداع، تتقاطع فيها الموسيقى، والفن، والثقافة، في تجربة حسية تجمع بين الضوء، والصوت، والطبيعة، ليصبح كل ركن من المهرجان حكاية فنية تُروى في قلب هذه الصحراء التي تمتد بآفاق لا نهائية، وتنبض بتاريخ يُجاور الأسطورة.
فقد انطلقت، أخيراً، فعاليات الدورة الثانية برعاية وحضور سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، حاملة معها بداية رحلة ثقافية تمتد ثلاثة أيام تجمع بين الفن والموسيقى والتجارب الإنسانية العميقة التي تسعى لخلق جسور بين الماضي والحاضر، وبين الإنسان وذاته. جاء المهرجان هذا العام محمّلاً بروح شعار «ما تبحث عنه يبحث عنك»، مقولة من إرث جلال الدين الرومي تعكس فلسفته في دعوة الإنسان للعودة إلى ذاته عبر التأمل والتواصل، والبحث عن المعنى في مساحات تتجاوز حدود الحسّ والمشهد.
وفي كلمتها الافتتاحية، شدّدت سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، مؤسّسة المهرجان، على أهمية الفضاءات الثقافية، ودورها في تنمية الوعي والارتقاء الإنساني، وقالت: «نجتمع في صحراء مليحة لنتوقف، ونتواصل، ونجد السكينة بعيداً عن صخب العالم واضطرابه. يقول لنا جلال الدين الرومي إنه عندما نصقل مرآة قلوبنا، نعيد اكتشاف النور الذي لطالما كان في داخلنا. أملي وإيماني أن يُتيح «تنوير» لكلٍّ منّا ذلك - لحظةً من الصفاء والحضور والتجديد». وقد جاءت كلمة سموها مصحوبة بعزف ساحر على آلة السنطور، قدمه الفنان العراقي أزهر كبة، ما أضفى على المشهد بُعداً روحياً عميقاً.
ومن الموسيقى العالمية إلى الفنون التفاعلية، ومن الورش الفنية إلى الرحلات الاستكشافية في الطبيعة، يعزز مهرجان «تنوير» حضوره نقطة التقاء لعشاق الثقافة والفن من مختلف أنحاء العالم. حيث استقبلت صحراء مليحة باقة من الفنانين العالميين قدموا عروضاً استثنائية على أربع منصات رئيسية تشمل: «المسرح الرئيسي»، «القبة»، «شجرة الحياة»، و«السوق»، لتغطي كل منصة جانباً مختلفاً من التجربة الفنية والثقافية، دفعت زوار مهرجان «تنوير» إلى الانغماس في الموسيقى العالمية، واستكشاف الإبداع المحلي، والتواصل مع الطبيعة الساحرة للصحراء.
أنغام تأسر القلوب على المسرح الرئيسي
تصدّر قائمة النجوم على المسرح الرئيسي الموسيقار العالمي إيه. آر. رحمان، الحائز على جائزتي أوسكار وغرامي، والذي يُعرف بموزارت مدراس. فقد أخذ رحمان الجمهور في رحلة موسيقية ساحرة، مزج فيها بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، والتوزيعات الأوركسترالية الحديثة، مقدّماً عروضاً تحاكي الروح السينمائية لأعماله التي أسرت العالم، من الألحان الهادئة، إلى الإيقاعات النابضة بالحياة.
إلى جانبه، تألقت أنوشكا شانكار، بعزف السيتار، مقدّمة لوحة موسيقية تجمع بين الكلاسيكية الهندية والفلامنكو الإسباني، فتتشابك الأوتار مع إيقاعات غنية، لتخلق أجواء تثير المشاعر، وتشدّ الانتباه.
بدوره، أدهش الفنان الإيراني سهراب بورناظري، الجمهور، بمزيج من الطنبور والكمنجة والسيتار، بمشاركة المغنية والموسيقية سحر بروجردي، في عرض يعكس ثراء الموسيقى الشرقية، وتنوّعها، ويأخذ الحضور في رحلة بين الأصالة والابتكار.
ساحة «القبة»... تجربة صوتية تحاكي الحواس
وفي ساحة «القبة»، عاش الزوار تجربة صوتية غامرة مع باحث الصوت ماركو جيغون، حيث تراقصت الأصوات بين الطبيعة والموسيقى الإلكترونية، فتشعر كأنك تمشي بين الغيوم والأصداء، وكل صوت يحكي قصة. وعلى المنصة نفسها، تضيف المغنية الأمريكية بيروكوا، لمسة من الجاز، والتقاليد الأمريكية الأصيلة، فتشكل جسراً بين الثقافات، وتخلق لحظات موسيقية تبعث على التأمل والانبهار.
منصة «شجرة الحياة»... الفن في تفاعل حي مع الجمهور
أما منصة «شجرة الحياة» فقد استضافت عروضاً تفاعلية وفنية جعلت الجمهور جزءاً من الأداء، حيث قدمت الفنانة نانسي زبانه، وأنس الحلبي، موسيقى شعرية متشابكة مع الإيقاع والقصيدة، لتصبح كل كلمة وإيقاع جزءاً من التجربة الحيّة. وأضاف الفنان الإسباني إل أمير لمسة ساحرة، يمزج فيها بين الفلامنكو، والعود، والبزق، بأسلوب أصيل يلامس الروح، ويخلق لحظات من الانبهار الفني الصافي.
منصة «السوق»... لقاء الإبداع بالموسيقى والكلمة
وعلى منصة «السوق»، قدم ثنائي بينّا أول عروضه التي تجمع بين العود والغيتار، فيما عرض الفنان نسيب بوشبل ألحاناً حية باستخدام آلات تقليدية وعصرية، ويضيف أزهر كُبّة لمسة فريدة عبر آلة السنطور، بينما تقدم الباحثة ليلي أنفار قراءات شعرية تثير تفاعل الجمهور، لتصبح المنصة مساحة حية من الصوت، والكلمة، والإحساس.
رحلة الاكتشاف في قلب الصحراء
إلى جانب العروض الموسيقية والفنية، يشمل مهرجان «تنوير» مجموعة من ورش العمل والتجارب التفاعلية، وعروض الحرف اليدوية، وأنشطة ممتعة في صحراء مليحة، تشمل رحلات أثرية، ومراقبة النجوم، وسفاري بين الصخور والأحافير، لتتحول الصحراء إلى عالم ينبض بالإبداع والاكتشاف. هنا تصبح كل لحظة مملوءة بالسحر، وكل خطوة في الرمال تحمل وعداً بلقاء جديد مع الفن، والثقافة، والطبيعة، لتبقى تجربة مهرجان «تنوير» محفورة في ذاكرة كل من حضرها.
الأعمال الفنية المشاركة في مهرجان تنوير 2025
كما قدّم مهرجان تنوير 2025 مجموعة من الأعمال التركيبية الغامرة التي مزجت بين الضوء والهندسة والطبيعة، لتحوّل صحراء مليحة إلى متحف مفتوح يتناغم فيه الفن، مع الجغرافيا وتاريخ المكان. وجاءت الأعمال المشاركة هذا العام لتعكس عمق الهوية البصرية للمهرجان، وتنسجم مع روح السكون، والتأمل، والبحث عن المعنى التي يقوم عليها.
روضة الكتبي... تحولات الزمن
قدّمت الفنانة الإماراتية روضة الكتبي عملاً يستعيد الذاكرة الجيولوجية لمليحة، عبر تركيب يضم كرات نحاسية متباينة الأحجام تتوزع على المشهد الصحراوي. يستحضر العمل حركة الماء التي تجمّدت عبر الزمن، ليصبح النحاس المؤكسد رمزاً لمرور الزمن، والجدل بين السكون والتحوّل. ومن خلال تموضع القطع في تضاريس مليحة الطبيعية، يدخل العمل في حوار بصري مع المكان، داعياً المتلقي إلى التأمل في دورات الطبيعة، وتحوّلات الزمن، وصدى البحر القديم الذي كان يحتضن هذه الأرض، قبل آلاف السنين.
نيكسوس... بين الماضي والمستقبل
جسّد استوديو «هايبيكوزو» عملاً تركيبياً مذهلاً بعنوان «نيكسوس»، يأخذ شكل قبة ذهبية شبيهة بخلايا النحل. تتكون البنية من وحدتين متداخلتين تشكّلان فضاءً متعدد الأسطح، يدعو الزوار إلى التأمل. وعند حلول الليل، يمنح الضوء الهيكل حياة جديدة تجعله يبدو عابراً وخفيفاً، على الرغم من صلابته المعدنية. يوازن العمل بين البناء والهندسة العضوية، ويقدّم «ملاذاً مفتوحاً» يتقاطع فيه الضوء مع الظل، والمشهد الطبيعي مع حضور الإنسان. ويجسد «نيكسوس» نقطة اتصال رمزية بين الماضي والمستقبل، وبين الطبيعة والصنعة البشرية.
جمعة الحاج... همسات
يخوض الفنان الإماراتي جمعة الحاج في عمله «همسات» رحلة فكرية عبر مجسمات مستوحاة من علامات الاقتباس. تتجمع ثماني وحدات فولاذية ضخمة في تكوين يرمز إلى الأفكار التي تتبلور مع الزمن، وتتحوّل إلى فهم ناضج. يستلهم الحاج إيقاع هذا النمو من وردة الصحراء، بما تحمله من دلالات على التحوّل البطيء والصامت. وتماماً كما تتشكل البلورات في عمق الرمال، يقدم العمل خريطة رمزية لعقل يغامر بين الشك والبحث، ليصل إلى لحظات نادرة من الصفاء والمعنى، وسط جغرافيا مليحة المملوءة بهذا البعد التأملي.
آمنة بن بشر ودنى ودانية العجلان... انعكاس
أما مجسم انعكاس من تصميم آمنة بن بشر، ودنى ودانية العجلان، فقد جاءت فكرته من زيارة إلى كهوف منطقة مليحة، حيث استلهم الفريق إحساس القِدم والعودة إلى الأصل، مؤكّدات أن التجربة حرّكت فيهنّ رغبة في ابتكار مساحة تستحضر روح الكهف بصياغة حديثة، مستندة إلى مقولة جلال الدين الرومي: «ما تبحث عنه يبحث عنك»، لتكون جوهر الفكرة البصرية والروحانية، في آن. اعتمد الفريق على المرايا داخل الكهف لتعكس الإنسان إلى ذاته، فيرى صورته الداخلية قبل ملامحه الخارجية، فيشعر الزائر بالسكينة في العمق المغلق، ويتأمل الانعكاس بوصفه نافذة نحو الداخل، بينما صُمِّم الجزء الخارجي بطبقة حجرية توحي بصلابة الكهوف القديمة، مع إضافة عنصر النار ليمنح المكان شعوراً بالدفء والطمأنينة.
