شمّه البستكي: أتنقّل بين البيوت الشعرية والإنسانية لأروي ذاكرة الوطن
بين دفء البيت الأول وإيقاع البيت الشعري، تنسج الكاتبة والشاعرة الإماراتية شمّه فيصل البستكي، عالماً من القصص، والذاكرة، واللغة، في ديوانها «بيت لبيت»، لتجمع بين الأصالة والتجريب، وبين لهجة الأرض وإيقاع الحداثة، فتجعل من الشعر جسراً يعبر من البيت الشعبي إلى المدينة الحديثة، ومن الحكاية اليومية إلى التأمّل الفلسفي العميق.
في هذا الحوار، تكشف الشاعرة شمّه البستكي عن تفاصيل رحلتها الإبداعية، وتحدثنا عن معنى «البيت» في تجربتها، وعن الشعر كذاكرة تحفظ هوية الإمارات وتربط بين الأجيال، كما تتناول رؤيتها لدور الأدب في زمن الصورة والمنصّات الرقمية:
ديوانك «بيت لبيت» يحمل عنواناً دافئاً يعبّر عن القرب والانتقال، فماذا يرمز لك «البيت» في المعنى الشعري والإنساني؟
في اللغة العربية، كلمة «بيت» تحمل أكثر من معنى: فهي تشير إلى المنزل، وفي الوقت نفسه تمثل بيت الشعر، ومن هذا المنطلق، يتحرك الديوان بين البيوت الحقيقية، كما يتحرك بين البيوت الشعرية. في جوهره، يركّز المشروع على البيوت وأهلها، لكنه أيضاً استكشاف للغة وروحها. لذلك جاء عنوان الديوان «بيت لبيت»، ليعكس هذا التنقل بين البيوت الشعرية والإنسانية ليروي ذاكرة الوطن.
ما اللحظة أو الفكرة التي كانت الشرارة الأولى لولادة هذا الديوان؟
الشرارة الأولى لولادة هذا الديوان جاءت أثناء دراستي الجامعية، حين كنت أدمج بين الأدب والدراسات الاجتماعية والسياسات العامة. في تلك الفترة، بدأت أفكر في كيفية الاستفادة من ممارستي الأكاديمية في تعزيز تجربتي الإبداعية، والعكس صحيح، ومن هذا التلاقي بين المعرفة، والبحث،والشعر، نشأت فكرة هذه المجموعة الشعرية، كمساحة تجمع بين التأمل الأكاديمي، والخيال الشعري.
قصائد «بيت لبيت» تجمع بين اللغة الإنجليزية واللهجة الإماراتية أحياناً، فهل هو خيار فني أم عفوية نابعة من روح النص؟
المزج بين اللغات واللهجات في قصائد «بيت لبيت» لم يكن بناء على قرار فنيّ مسبقاً، بقدر ما كان انعكاساً طبيعياً للنص وروحه. أثناء الاستماع للمقابلات وكتابة ما سمعته، شعرت بأن بعض الكلمات يجب أن تبقى كما هي، لأنها تحمل نغمة ومعنى لا يمكن نقلهما بالكامل، فأعتقد أن الأمر كان غريزياً، كأنه امتداد لما أشعر به في نفسي أثناء الكتابة.
حضور المكان في نصوصك لافت، من البيت الشعبي إلى المدينة الحديثة، كيف تؤثر الهوية الإماراتية في تشكيل خواطرك الشعرية؟
حضور المكان في نصوصي ينبع من تجربة الحياة نفسها في الإمارات، فالشعر هنا لا يُكتب تأثراً بالهوية فقط، بل يأتي منها بطريقة طبيعية، فهو نتاج الحكايات والذكريات التي رويت لي. يمكن القول إن الهوية الإماراتية لا تفرض نفسها على النصوص، بل تشكّل الأساس الذي يُبنى عليه الشعر، فتتفاعل الذاكرة والمكان مع اللغة لتنتج نصاً ينبض بروح الوطن، وحكاياته.
الشعر هو الجسر الذي يربط بين الأجيال ويحفظ ملامح الثقافة المحلية
في ظل تسارع التغيّرات، كيف يمكن للشعر أن يكون جسراً بين الأجيال ووسيلة لحفظ الثقافة المحلية؟
الشعر بالنسبة لي ليس مجرّد فن، بل هو لغة الطبيعة الإنسانية نفسها، أقْدمها وأكثرها أصالة في نقل القصص والمشاعر من جيل إلى آخر، فأثناء عملي على هذا الديوان لاحظتُ أن الكثير من كبار السن الذين تحدثت معهم كانوا شعراء بطبيعتهم، حتى إن لم يدركوا ذلك، من طريقة سردهم للحكايات، وإيقاعات كلامهم، واختيارهم للكلمات، فالإنسان متجاوب بالفطرة مع الشعر، فقد كانت أولى القصص الإنسانية تُروى شفهياً على شكل أبيات شعرية. ومن هنا أرى أن الشعر يحمل قدرة فطرية على أن يكون جسراً يربط بين الأجيال، ينقل الخبرة والتجربة والقيم والثقافة، ويتيح للأجيال القادمة أن تتواصل مع حاضرنا وماضينا، في آن واحد. الشعر، بإيقاعه وعمقه، وسيلة مميزة لحفظ الثقافة المحلية، ونقلها بروح حيّة إلى المستقبل.
كيف توازنين بين دورك الأدبي ومشاركاتك المجتمعية والثقافية؟
لإيجاد التوازن بين عملي الأدبي ومشاركتي الثقافية والمجتمعية، أرى أن الأساس هو الحب العميق تجاه ما نقوم به، فالكتابة بالنسبة لي ليست مجرّد نشاط، بل هي مصدر فرح، وهي هدفي في الحياة. عندما يصبح ما نحبه جزءاً من حياتنا على مدى سنوات طويلة، نجد أنفسنا نخصص له الوقت تلقائياً، مهما ازدادت الانشغالات والمسؤوليات الأخرى، إلى جانب الكتابة، هناك الالتزامات الثقافية والفنية، من فعاليات وحوارات ومناقشات، وهي تجربة ثرية وممتعة، تكمل المسار الأدبي. الهام هو تحديد الأولويات، والتركيز على ما يمنح حياتنا معنى حقيقياً، وإتاحة الوقت له بإرادة ووعي، فالتوازن في النهاية ليس مسألة جدول، بل خيار واعٍ لما يستحق أن يكون أساس حياتنا.
لديك تجربة ملهمة حيث تم تدريس أحد أعمالك في اليابان، هل لك أن تحدثينا عنها؟
تلك التجربة كانت لحظة مميّزة ومُلهمة على الصعيدين، الشخصي والأدبي. بدأت القصة عندما تم استخدام مقتطف من ديوان «بيت لبيت» الذي نُشر في مجلة «أسيِمبتوت» الأدبية، كدليل تعليمي، فأقدمت أستاذة يابانية على تدريسه لطلابها، من دون أن أكون على علم بذلك، إلا بالصدفة لاحقاً، حين صادفت مقالًا كتبته الأستاذة عن هذه التجربة، ونُشر بعدها في مجلتين أكاديميتين. الأمر حمل بالنسبة لي معنى شخصياً عميقاً، إذ إن جدّي له علاقة طويلة باليابان منذ سبعينيات القرن الماضي، من خلال صديقه الياباني نيشيمورا سان، الذي كان يزور دبي بشكل مستمر، وقد أجريت معه مقابلة قبل إعداد هذا الديوان. لذا، فإن تدريس نص من نصوصي التي تحتوي على العديد من الذكريات والحكايات الشخصية في بلد يرتبط بتاريخ عائلي، كان تجربة فريدة ومؤثرة للغاية.
هل عرفت سبب اختيار تلك اليابانية لتدريس عملك؟
نعم، فعندما زرت اليابان، أخيراً، التقيت بالأستاذة التي درّست الديوان، وتحدثت معها عن سبب اختيارها لهذا العمل، فشرحت أن طلابها كانوا مهتمين بفكرة الشعر الذي يحفظ تاريخ وثقافة الشعوب، خصوصا من منطقتنا. وقد قامت بدعوتي لاحقاً للحديث أمام طلابها في جامعة «ريتسوميكان» في كيوتو، لتبادل الأفكار حول شعري وأعمالي الأخرى. كانت هذه التجربة بمثابة دائرة مكتملة، أثّرت فيّ كثيراً، على الصعيدين الإبداعي والإنساني.
هل تؤمنين بأن الشعر ما زال قادراً على التأثير في الناس في عصر الصورة والمنصات الرقمية؟
مهما انغمسنا في هذا الإيقاع السريع للحياة الرقمية، سيظل في داخلنا حنين إلى الكلمة التي تهدّئ من سرعة الزمن، وتمنحه معنى، ولا أرى الشعر نقيضاً لتلك الوسائط الحديثة، بل مساحة موازية يمكن أن يتنفس فيها بطريقته الخاصة، فالشعر قادر على الوجود داخل الفضاءات الرقمية، على المنصات، بين الصور والمقاطع، لأنه في النهاية سيبقى هناك دائماً متّسع للشعر، لأن الإنسان، في جوهره، يحتاج إلى ما يُعيده إلى ذاته.
من هم الشعراء الذين تركوا فيكِ أثراً كبيراً سواء من الإمارات أو من العالم العربي؟
تتعدد الأسماء التي أثرت في تجربتي الشعرية، من عصورٍ وأصوات مختلفة تنتمي إلى فضاءات متنوعة. فمن الشعر القديم، أستلهم كثيراً من المعلقات، ومن تلك اللغة التي كانت تتنفس الصحراء، وفي الشعر النبطي، أجد في تجربة عوشة السويدي مصدر إلهام عميق، أما في الشعر الحديث، فأشعر بقرب كبير من أعمال نازك الملائكة، التي فتحت لنا أُفقاً جديداً في الإيقاع، والحرية، والتعبير، وكذلك تأثرتُ بتجربة نجوم الغانم، التي أعدّها من روّاد الحداثة الشعرية في الإمارات، فقد ألهمتني رؤيتها في تجاوز حدود الشكل واللغة. وفي النهاية، أؤمن بأن الشعر لا يقتصر على الأسماء المعروفة، فهناك شعراء للحياة اليومية لا يدركون أنهم شعراء، ومع ذلك تصدر عنهم لحظات شعرية خالصة في حديث عابر، أو نظرة، أو صمت.
كيف تبدو طقوسك في الكتابة؟ هل تكتبين في لحظات معيّنة أم في أمكنة محددة؟
الكتابة بالنسبة لي لا يمكن التخطيط لها، فالإلهام والرغبة يأتيان متى ما أرادا، فقد أكتب في منتصف الليل، أو مع أول ضوء في الصباح، أو في أيّ وقت من اليوم، لا أتحكم في تلك اللحظة، وأحياناً حين أقرر أن أكتب، لا أستطيع، أما مرحلة التحرير فهي منظمة أكثر، لأنني أتعامل فيها مع نصوص مكتملة أحتاج إلى مراجعتها، أو تطويرها.
ماذا عن مشاركتك مع مؤسسة الإمارات للآداب؟ وكيف تترجمين دعمها لك؟
علاقتي بمؤسسة الإمارات للآداب بدأت قبل أن أكون كاتبة، أو أنشر كتابي بوقت طويل. كنت أزور المهرجان كقارئة، وأتطلع إلى اليوم الذي أشارك فيه صوتي مع الجمهور. اليوم، أن يُنشر كتابي بدعم من المؤسسة ومن خلال دار «إلف» للنشر، هو امتداد طبيعي لذلك المشوار، وفرصة أعتزّ بها كثيراً، فوجود دار مثل تلك الدور يمثّل إضافة هامة للمشهد الأدبي الإماراتي، فهي لا تكتفي بدعم الأصوات الجديدة، بل تعمل على توثيق التاريخ الشفهي للدولة، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن القصص لا تكتمل إلا حين تُروى بأصوات أصحابها.
نراك حاضرة في المشهد الثقافي الإماراتي بقوة، لكونك لا تكتفين بالكلمة فقط، بل تستخدمين الوسائط المتعددة (فن، دمى، حياكة، تصوير) كجزء من تجاربك التعبيرية، حدثينا عن ذلك.
الأمر لم يكن قراراً مقصوداً، بقدر ما كان نتيجة طبيعية لتعدد اهتماماتي، وشغفي بأكثر من مجال، فمنذ طفولتي وأنا أجد متعة في التجربة والاكتشاف، في الفن والكتابة، أحب أن أتنقّل بين الشعر والفن والمتحف والعمل الثقافي، لأن كل مجال منها يفتح لي زاوية جديدة للفهم والرؤية، لكن مهما تنوعت الوسائط التي أستخدمها أعود دائماً إلى الشعر، لكونه الجوهر الذي يجمع كل تلك التجارب، واللغة التي أستطيع من خلالها أن أترجم كل ما أعيشه في الفنون الأخرى.
ما الرسالة التي تودّين أن تصل إلى جمهورك من خلال فنك؟
العملية بالنسبة لي أكثر تلقائية من أن تكون رسالة محدّدة، أبدأ بالكتابة أو بصناعة العمل من دون أن أفكر كثيراً في ما قد يعنيه، أو كيف سيتلقّاه الآخرون، ثم مع الوقت يبدأ هو نفسه بإخباري عمّا يريد أن يكونه، وما الفكرة، أو الإحساس الذي يحملها، فغالباً لا أحدّد الرسالة مسبقاً، بل أكتشفها أثناء، وبعد الانتهاء من تجربة الكتابة.
وأخيراً، كيف ترين مستقبل الشعر الإماراتي من وجهة نظرك؟ وما الدور الذي تطمحين إلى أن تلعبيه في هذا المشهد؟
أرى أن الشعر الإماراتي يتجدّد باستمرار، كما أرى أن الجيل الحالي من الشعراء شغوف بالتجربة والابتكار، ويطرح أسئلة جديدة حول الشعر ودوره في زمننا. نجد اهتماماً واضحاً بالحفاظ على الروابط مع التراث الشعري والتاريخ الأدبي، وفي الوقت نفسه سعي مستمر نحو البحث عن أشكال جديدة تعكس تجاربنا المعاصرة. أما ما أطمح إليه بشكل شخصي، فهو أن أكون جزءاً من هذا الحوار المستمر، وأن أشجع الآخرين على طرح أسئلة، أوسع وأعمق، حول الشعر، ومعناه، وطبيعة العلاقة بين الحداثة والعراقة الشعرية.
* تصوير: السيد رمضان
