في الكثير من المجتمعات تُقدم الشيخوخة على أنها نهاية الشباب، ونهاية العطاء، ونهاية الجمال. غير أن الشيخوخة في الواقع، وحين تُفهم فهماً عميقاً، ليست نهاية لشيء، بل انتقال إلى مرحلة أكثر اتزاناً ونضجاً، ووعياً بالذات.
إنها الزمن الذي تتصالح فيه الروح مع تجاربها، وتتعلم أن تختار ما يمنحها السلام لا الصخب، فالإنسان لا يكبر ليضعف، بل ليزداد وعياً، وخبرة، وحكمة.
والشيخوخة الإيجابية ليست مجرّد بقاء الجسد في صحة جيدة، بل هي فن العيش، بمعنى أن يستيقظ الإنسان كل صباح ممتناً لما لديه الآن، متقبّلاً لما فقد من قبل، مستعدّاً لما سيأتي، من دون خوف أو رفض. فالقيمة الحقيقية للعمر ليست في عدد السنوات، بل في ما نملأ به تلك السنوات من حبّ، وصدق، وأثر.
وفي ثقافات شرقية أصيلة، مثل الثقافة العربية، كان الكِبَر مرادفاً للحكمة، ويحتفى به كإنجاز. وكان يُقال «الكبير بركته في المجلس»، لأن عمره ليس مجرّد رقم، بل سيرة حياة تختزن العِبَر، والتجارب، والمواقف التي تستقي منها الأجيال تجاربها. غير أن العولمة الحديثة، بما تحمل من هوس بالشباب والمظهر، جعلت بعض المجتمعات تُخفي شيبها، كأنها تُخفي عيباً، فصار الناس يخشون أعمارهم بدل أن يحتفوا بها، ويعملوا المستحيل للقضاء على كل ما يظهر شيبهم، وتجاعيدهم.
إن الاحتفاء بالعمر ليس ترفاً، بل هو احترام للزمن الذي شكّلنا، فالوجوه التي عبرت التجارب تحمل في ملامحها قصصاً أعمق من أيّ سيرة مكتوبة، واليد التي تجعّدت من العمل ليست علامة ضعف، بل دليل على حياة امتلأت بالكدّ والكرامة. لذلك، فإن إكرام الكبار ليس واجباً أخلاقياً فقط، بل هو وعي وطني وثقافي، يعكس نضج المجتمع، وقدرته على ردّ الجميل لمن صنعوا أساسه.
وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأشخاص المتقدمين في السّن الذين يشاركون في أنشطة اجتماعية وثقافية، ويستمرون في التعلم والعطاء، يتمتعون بصحة أفضل، ويقل لديهم الاكتئاب بنسبة عالية. وهذا يؤكد أن الشيخوخة ليست زمن التراجع، بل مرحلة جديدة من العطاء المختلف.
وفي المجتمعات التي تعاني ضعفاً في التواصل بين الأجيال، يضيع هذا الرصيد الإنساني الهائل. بينما المجتمعات الذكية تخلق منصّات تُعيد دمج الكبار في أنشطتها الثقافية، والتعليمية، والتطوعية، فيستفيد الشباب من خبراتهم، ويستعيد الكبار شعورهم بالقيمة والانتماء. فالشيخوخة الإيجابية لا تُبنى بالدواء والرياضة فقط، بل بالتقدير، وبأن يشعر المسنّ بأنه ما زال «جزءاً من الصورة».
إن تكريم الكبير في السن تكريم للمجتمع نفسه، فالعمر لا يقلّل من قيمة الإنسان، بل يزيدها. ومن المؤسف أن تُختزل الشيخوخة، أحياناً، في صورة الضعف، أو العجز، أو القبح، بينما في جوهرها تكمن الحكمة التي لا تُشترى. لذلك ينبغي أن تتحول فلسفة التعامل مع الكبار من رعاية إلى شراكة، ومن شفقة إلى تقدير.
ومن الهام أن ندرك جميعاً أن الجمال ليس في أن نبقى صغاراً، بل أن نكبر ونظل نحيا بشغف، فالعمر، في جوهره، ليس عدّاد سنوات، بل مقياس للحكمة، والقدرة على رؤية العالم بعينين لا تخافان الغروب، لأنهما تعرفان أن الشمس ستشرق دائماً، حتى في القلب الذي كبر بالحبّ، لا بالعمر.