
احترقت فرحة الطفلة الإماراتية موزة كاسب، 7 سنوات، بعيد ميلادها بسبب «تريند»... ففي اليوم الذي كان من المفترض أن تحتفل فيه موزة بعيد ميلادها السابع، تحولّ هذا اليوم إلى ذكرى موجعة، بعد أن أصيبت بحروق بالغة أثناء محاولتها تقليد مقطع منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن ما يعرف بـ«تريند حرق الدمى الشريرة».
كانت موزة تتواجد في منزل أسرتها، بإمارة رأس الخيمة، عندما قررت تقليد فيديو يظهر فيه اشتعال دمية. ولكن سرعان ما شبّ اللهب وطال ملابسها، حيث كانت ترتدي «المخور الإماراتي»، وإذ هرعت مذعورة إلى الخارج، صادف مرور شقيقها الذي سارع إلى إنقاذها، وتم نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى.
اليوم، موزة عادت إلى مقاعد الدراسة، وتعلّمت، وأدركت ضرورة عدم الانجرار وراء التقليد الأعمى لأيّ «تريند»، وباتت تخشى النار، وتتجنبها.
وكان تريند «حرق الدمى الشريرة» قد انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، بخاصة بين الأطفال والمراهقين، حيث يقوم بعضهم بتصوير مقاطع فيديو يقومون فيها بحرق دمى يعتقدون أنها «شريرة»، أو تحمل «لعنة»، ثم يشاركون هذه المقاطع من باب المشاركة في «الموضة» الرقمية الرائجة، على الرغم مما يحمله هذا «التريند» من أخطار، سواء جسدية بفعل الحرق وآثاره، وخطر نفسي يتعلق بواقع الطفل أو المراهق، ودوافعه للقيام بذلك، إلى البعد القيمي والاجتماعي لجهة الانجراف وراء المحتوى من دون التنبّه للعواقب، وعدم مراعاة القيم المجتمعية في بيئتنا.
بدأ «تريند حرق الدمى الشريرة» عبر مقاطع فيديو لحرق دمى على وقع مؤثرات، صوتية ومرئية، تضفي طابع الرعب أو التسلية، ما جذب فضول الأطفال والمراهقين إلى تقليدها. ومن أبرز الدمى المرتبطة بهذا «التريند» دمية «لابوبو»، التي عرفت انتشاراً كبيراً، أخيراً، ولكن البعض وصفها بأنها «ملعونة»، أو «شريرة»، ما دفع مؤثرين إلى حرقها، وتصوير ذلك كنوع من «التخلص من الشر».

وكانت القيادة العامة لشرطة دبي تحركت بشكل عاجل وحذّرت، عبر مقطع توعوي قصير، من خطورة تقليد ما يُعرف بـ«تريند حرق الدمى الشريرة»، مؤكدة أن مثل هذه الممارسات تشكل خطراً حقيقياً على السلامة العامة، وقد تؤدي إلى حوادث مؤسفة نتيجة التعامل الخاطئ مع النار، أو المواد القابلة للاشتعال.
وشدّدت الشرطة على أن «التريند ليس معياراً يُحتذى»، داعية الأسر إلى توعية أبنائها بعدم الانسياق وراء التقليد الأعمى، والتنبه لمثل هذه السلوكات، وتدعيم الوعي لدى الأطفال والمراهقين، بالقول: «علّموا أولادكم عدم الانسياق وراء التقليد الأعمى... فلا تدع التريند يحرقك… ابقَ سالماً».
«كل الأسرة» تناقش خطورة هذا «التريند» مع المختصين، حيث يتجلى الخطر في كون هذا «التريند» هو انعكاس لظاهرة أعمق، تمّس الأمن المجتمعي، وتترجم مساراً من اللاوعي لدى فئة، أو بعض من هذه الفئة تشكّل دعامة المستقبل:
فما هي آثار هذا «التريند»؟ وما السبيل إلى حماية أبنائنا؟ وما هي الاستراتيجيات لمواجهة هذه الآفة التي تتطلب وعياً أسرياً، وتدخلاً حاسماً من الجهات المختصة ؟

خلل في إدراك مفهوم الشهرة
تحذّر الدكتورة مروة شومان، مستشار الصحة النفسية والتربوية في منصة العافية الشمولية، من تريند «حرق الدمى الشريرة» بين الأطفال والمراهقين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن هذه الظاهرة تمثل خطراً كبيراً على سلامة الصغار، وتكشف، في الوقت نفسه، عن خلل في إدراك مفهوم الشهرة والتميّز لدى هذه الفئة.
وتوضح: «عندما يقدم الطفل، أو المراهق، على هذا الفعل، فإنّه يشعر كأنه يقوم بأمر مميّز واستثنائي، بل يراه إنجازاً يجعله ضمن فئة «التريند»، أو الأشخاص المهمين «V.I.P»، لكون فكرة «التريند» في الأساس تُوحي بأنها تخص فئة محدّدة من المؤثرين، أو المشاهير على وسائل التواصل، ما يدفع بعض المراهقين إلى تقليدهم من دون وعي، أو إدراك للعواقب».
بيد أن خطورة الأمر لا تكمن في التقليد الأعمى فقط، بل «في أن هؤلاء الأطفال والمراهقين غالباً ما ينفذون التجربة بمفردهم، بعيداً عن رقابة الأهل، لأنهم يدركون مسبقاً أن آباءهم وأمهاتهم سيرفضون مثل هذا السلوك، فيلجأون إلى السرية، ما يضاعف احتمالات تعرّضهم لحوادث خطرة، مثل الحروق، أو الاختناق، أو الإصابات الجسدية».
فما يبدو للبعض «تجربة عابرة»هو في حقيقته سلوك محفوف بالمخاطر، ولا يقتصر على كونه فعلاً خطراً من الناحية الجسدية فقط، تشرح د.مروة شومان: «عندما نتحدث عن هذا «التريند»، فإننا نُدخل الطفل في دائرة الترويج لفكرة السحر، ونظريات المؤامرة، والطاقة الشريرة. وهذا الأمر يفتح الباب أمام الأوهام، إذ قد يبدأ الطفل يتخيل أن اللعبة تتحدث، أو تتحرك، نتيجة ما يُروَّج له من فكرة الطاقة الشريرة، فيقوم بحرقها كنوع من أنواع التخلص منها. وبالتالي، فإن هذا الفعل هو ترويج لأفكار لا تتفق مع ثقافتنا الإسلامية والعربية».
وثمة جانب آخر للمشكلة ترصده المستشارة النفسية: «قدرة الطفل على اتخاذ القرارات واستيعاب العواقب تتأثر كثيراً بهذا النوع من السلوكات، لأنني عندما أسمح له بأن يُقدم على هذه الأفعال، فإنني أعلّمه بطريقة غير مباشرة أنه يستطيع أن يفعل أي شيء من دون أن يُفكر، أو يُميّز بين الصح والخطأ. ومع الأسف، ما يحدث فعلياً هو أنه يعتاد اتخاذ قراراته بنفسه من دون الرجوع إلى والديه، أو أي شخص في المنزل، وهذه الظاهرة لا تؤذي سلامة الطفل الجسدية فقط، بل تُربّيه على الاندفاع، وعدم الإصغاء لأهله، ورفض التوجيه، ما يخلق مشكلة تربوية كبيرة جداً».
مواجهة هذه الظاهرة تتطلّب رقابة أسرية واعية وحواراً مفتوحاً مع الأبناء حتى لا يتحوّل «التريند» إلى خطر حقيقي
وتوجز د. مروة مخاطر تريند «حرق الدمى الشريرة»، وأبرزها:
- تنمية سلوك عدواني أو رغبة في الإيذاء.
- ضعف القدرة على التمييز بين الصح والخطأ عند الأطفال والمراهقين.
- زيادة مشاعر القلق أو الخوف بسبب ربط الدمى بالأفكار الشريرة.
- تأثر الصحة النفسية بمشاهدة أو مشاركة محتوى العنف.
- تشجيع التقليد الأعمى بحثاً عن الشهرة أو لفت الانتباه.
- انتشار سلوكات خطرة بين مجموعات الأصدقاء والمدارس.
- فقدان الثقة بين الأهل والأبناء بسبب ضعف المراقبة والتوجيه.
- تعزيز ثقافة التحدّيات السلبية في المجتمع.
- ترويج لأفكار خرافية وشركية مثل ربط الدمى بالجن أو الأرواح.
- إساءة فهم العقيدة الإسلامية في التعامل مع الشر أو الأذى.
- فقدان القيم التربوية والجمالية في اللعب والفن.
- إضعاف الهوية الثقافية لمصلحة تقليد عادات غريبة من الخارج.
وتؤكد د. مروة شومان أهمية التوعية الأسرية والإشراف المستمر على ما يتابعه الأطفال على المنصات الرقمية: «التعامل مع التريندات يجب ألا يكون بالسخرية، أو التجاهل، وإنما بالفهم والتوجيه والحوار، لأن الوعي هو خط الدفاع الأول أمام كل ظاهرة يمكن أن تهدّد قيمنا وسلامة أبنائنا».

لعبة قاتلة
من جهتها، تصف الدكتورة شماء لوتاه، مدربة حياة متخصصة في البرمجة اللغوية العصبية، شريك ومدير منصة العافية الشمولية تريند «حرق الدمى الشريرة» بـ«لعبة النار القاتلة»، موضحة أنه «في كل مرحلة عمرية، يبحث الأطفال والمراهقون عن طرق للتعبير عن مشاعرهم، سواء من خلال اللعب، والرسم، أو حتى استخدام وسائل التوصل الاجتماعي، والتقليد الأعمى لما يثير فضولهم من أنشطة وتحدّيات، مختلفة نوعاً ما. لكن حين يتحول هذا التعبير إلى طقوس جماعية تروّج للعنف والتدمير، مثل «تريند حرق الدمى» المنتشر على «تيك توك» وبعض المنصات، فنحن أمام ناقوس خطر حقيقي».
وكمدربة حياة تعاملت مع عدد كبير من المراهقين والأمهات، تقدّر د. شماء «إن هذه الظواهر لا تأتي من فراغ. فالفعل الصادم أحياناً يخفي خلفه ألماً مكبوتاً، أو إحساساً بالفراغ، أو حتى رغبة صامتة في لفت الانتباه».
قد يعبّر الطفل عن ألمه بحرق شيء يحبه كأنه ينتقم من واقعه، أو من محيط لا يفهمه
وتوضح: «من خلال الجلسات لاحظت الصعوبة في التعبير عن المشاعر لدى الصغار. حيث إننا، نحن الكبار، نملك مفردات تعبّر عن حزننا، أو غضبنا، أما الطفل، فهو لا يقول «أنا متألم» بهذه السهولة. بل قد يعبّر عن ألمه بحرق شيء يحبه، كأنه ينتقم من واقعه، أو من محيط لا يفهمه».
وأخيراً، لاحظت د. شماء لوتاه، وبشكل متكرر، نمطاً واحداً يتكرر، وهو صعوبة التعبير عن المشاعر: كثير من الأبناء يعانون العجز عن وصف ما يشعرون به، ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأنهم لا يملكون بيئة آمنة لقول الحقيقة. وهنا، تنشأ الحاجة إلى سلوك صادم، غير مفسّر، لكنه في جوهره صرخة: «أنا موجود»… اسمعوني!.
وهذا النوع من «التريندات» في جوهره مؤشر على فجوة نفسية واجتماعية يتوسع نطاقها مع الوقت. وواجبنا اليوم أن نقرأ هذه الأفعال ليس كمدربين أو تربويين فقط، بل كبشر مسؤولين عن الجيل القادم.
ولكن ماذا وراء «اللعبة المحروقة»؟
تجيب د. شماء: «الدمية» ليست قطعة قماش أو بلاستيك فقط. بالنسبة إلى الطفل، هي تمثّل الأمان، التخيّل، وأحياناً الرفيق الوحيد في الوحدة. وحرقها قد يرمز إلى:
- غضب مكبوت تجاه أحد الوالدين أو الحياة عموماً.
- رغبة لا واعية في إنهاء الطفولة والهروب من الضعف.
- تطبيع العنف كمصدر متعة أو تحدٍّ للحصول على تفاعل إلكتروني.
وتضيف: «للأسف، حين تُعرض هذه الأفعال على شكل «تحديات»، أو «تريند»، فإنها تكتسب شرعية زائفة، وتشجع المزيد من الأطفال والمراهقين على التجربة بدافع الفضول، أو الرغبة في الانتماء».
دور الأهل والمجتمع في المواجهة
وتخلص د. شماء لوتاه إلى الدعوة إلى الحوار مع أبنائنا، وتقول: «لا نحتاج إلى حظر المحتوى فقط، بل إلى الإنصات العميق وراء التصرف. لماذا اختار طفلك حرق دميته؟ ما المشاعر التي لا يعرف كيف يعبّر عنها؟ هل هناك وحدة؟ تنمّر؟ إهمال عاطفي؟ هل مشاعر الغضب تُعامل في البيت كأنها «عيب»؟
هنا يأتي دور الأسرة، والمدرسة، والمؤسسات الإعلامية في اتخاذ خطوات عدّة:
- أن نعيد إلى العب رمزيته الآمنة.
- أن نعيد إلى المشاعر قيمتها قبل أن تتحوّل إلى رماد على شكل «تريند»
- أن نوفر له حضناً دافئاً ومساحة آمنة يتمّ فيها الإصغاء له بصدق وحب».