05 أكتوبر 2025

في شهر أكتوبر الوردي... حين يتحول الطبيب إلى رفيق درب في رحلة الشفاء

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

في أكتوبر الوردي، شهر التوعية بمرض سرطان الثدي، لا تقتصر الرسائل على الفحص المبكر والوقاية، فحسب، بل تمتد لتشمل الأمل، والإيمان، والقوة التي يولّدها الدعم الإنساني. فخلف كل رحلة علاج ناجحة، يقف طبيب لا يكتفي بوصف الأدوية، بل يمدّ يده وقلبه لمريضته، يخفف عنها قلقها، ويمنحها طمأنينة تسندها في أصعب لحظاتها، ليثبت أن العلاج لا يبدأ بالإبر والجراحات فقط، بل بكلمة صادقة، ونظرة مطمئنة، واحتواء يجعل المريضة تشعر بأنها ليست وحدها في طريق الشفاء.

مجلة كل الأسرة

تحدثنا الدكتورة عايدة العوضي، رئيس قسم أمراض وأورام الدم في مدينة شخبوط الطبية بأبوظبي، عن إيمانها الراسخ بأهمية الدعم النفسي، وتروي لنا قصصاً واقعية  لمريضات حوّلن الألم إلى طاقة أمل، والهزيمة إلى بداية جديدة، وتقول «يبدأ علاج السرطان بالاحتواء الإنساني، والدعم النفسي الذي يمدّ المريضة بطاقة لا تقل أهمية عن العلاج الطبي، ومن واقع خبرتي كطبيبة أورام، أرى أن مريضة سرطان الثدي تحتاج إلى احتواء نفسي حقيقي يخفف عنها قلقها وخوفها، وأن تجد دعماً إنسانياً يطمئنها، ويجعلها قادرة على مواجهة العلاج، فسهولة الوصول إلى الطبيب، والمشاركة الواضحة في القرارات العلاجية بلغة بسيطة، تمنحانها شعوراً بالأمان والثقة بأنها ليست وحدها في هذه الرحلة».

مجلة كل الأسرة

 «عندما يسألني البعض لماذا اخترت تخصص الأورام، أستحضر دائماً أن هذا المجال، على الرغم من صعوبته، يحمل في طياته أجمل رسالة، فالحمد لله مع تطور العلاجات وازدياد نسب الشفاء أصبحنا نرى المرضى يتغلبون على السرطان، ويعودون إلى حياتهم الطبيعية، وهذا يعكس قيمة الفحص المبكر، وأهمية الالتزام بالعلاج، ودائماً ما أشكر الله عز وجل، أنني في هذا التخصص الذي أستطيع أن أكون من خلاله عوناً وسنداً للمريضات، ووسيلة سخّرها الله سبحانه لتعافيهنّ، فحين أرى مريضة تُشفى وتبدأ فصلاً جديداً من حياتها، أشعر بأنني جزء صغير من قصة نجاتها، وذلك شرف لي، ورسالة أعيش من أجلها، ودعاء المرضى لي هو أعظم ما يمدني بالقوة للاستمرار، ويؤكد لي أن اختياري هذا الطريق كان أعظم قرار في مسيرتي الطبية».

السرطان ليس نهاية بل قد يكون بداية جديدة لحياة ملهمة

تروي الدكتورة العوضي، قصة مريضة شابة في بداية الثلاثينيات، شُخّصت بسرطان الثدي في مرحلة متقدمة نسبياً، واجهت العلاج الكيماوي، والجراحة، والإشعاع بروح قوية، وإيمان عميق «لم تسمح تلك المرأة للمرض بأن يعزلها عن حياتها، أو أطفالها، بل كانت تستمد طاقتها منهم، وتدوّن يومياتها لتلهم مريضات أخريات، والحمد لله، تعافت تماماً، وتركت في نفسي أثراً عميقاً؛ فقد ذكّرتني أن المريض يمكن أن يكون مصدر إلهام لطبيبه، وحالة أخرى لن أنساها جاءت إلينا في مرحلة متقدمة من المرض، وكانت حديثة الزواج وتحلم بالأمومة، تمسكت بالأمل، على الرغم من صعوبة العلاج، وبعد رحلة طويلة من الكيماوي، والجراحة، والإشعاع، شفيت تماماً، وبعد سنوات حملت بشكل طبيعي، وأنجبت طفلها الأول، كانت لحظة ولادتها رسالة أمل لكل مريضة بأن الطريق مهما طال، فالإصرار والإيمان قادران على صنع المعجزات، بل يحول بعضهن من مرحلة كونها مريضة إلى رسالة أمل للمجتمع، فكثيرات لم يكتفين بالشفاء، بل أصبحن سفيرات للأمل، إذ أسس بعضهنّ مجموعات دعم لمريضات سرطان الثدي، وأخريات تطوعن داخل المستشفيات، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسائل التوعية والتشجيع على الفحص المبكر، وهناك من واصلن دراستهن في مجالات الصحة، ليكنّ أقرب إلى المرضى. هؤلاء النساء يُثبتن أن السرطان ليس نهاية، بل قد يكون بداية جديدة لحياة ملهمة».

مجلة كل الأسرة

وتوضح عزيزة المغيولي، الأخصائية النفسية السريرية في مدينة شخبوط الطبية بأبوظبي، كيف يصنع الدعم الأسري والطبي فرقاً في رحلة العلاج، وتقول «في شهر التوعية بسرطان الثدي، تتصدر قصص الشفاء والوعي عناوين الحديث، لكن خلف كل جلسة علاج، هناك معركة أخرى تُخاض بصمت داخل النفس، معركة الخوف، والهوية، واستعادة الإحساس بالحياة، فالأسرة أحياناً، بدافع الحب والخوف، تجعل المرض يحتل كل مساحة الحوار والاهتمام، فيتحول البيت إلى غرفة علاج، وتصبح المريضة محاصَرة بكلمة سرطان في كل لحظة».

 

الاستماع هو العلاج الصامت في مرحلة الشفاء

وتحذّر الأخصائية النفسية عزيزة المغيولي من هذا النوع من «الاهتمام الخانق» الذي يسلب المريضة إحساسها بذاتها، وتضيف «من واجب الأسرة أن تدرك أن الدعم لا يعني متابعة الفحوصات والمواعيد فقط، بل أيضاً مساعدة المريضة على الاستمرار في أدوارها الطبيعية، فحين تشعر بأن المرض جزء من حياتها، وليس حياتها كلها، يتحول البيت من ساحة قتال إلى مساحة حياة، ليأتي دور الطبيب الذي يعطي علمه مغلفاً بالإنسانية، فمهمتي ليست تقديم أدوات علاجية فقط، بل أن أكون شاهداً ومرافقاً لرحلة مؤلمة، فالعلاج النفسي لمريضات السرطان ليس جداول وتقنيات، بل مساحة آمنة تُمنح فيها المريضة الحق في أن تكون ضعيفة وخائفة من دون أن تُدان، أو يوجه إليها اللوم، فلحظة التشخيص هي الأصعب، فحين تسمع المريضة كلمة سرطان، تتوقف عندها، كأن الزمن تجمد، بعدها يأتي الخوف من العلاج وآثاره، ومن نظرة الآخرين، ودوري أن أساعدها على تسمية مشاعرها، بدل أن تبتلعها، فبمجرد أن تسمع عبارة من الطبيعي أن تخافي يُعيد إليها هذا جزءاً من قوتها، وتستعيد طاقتها، فالتفاؤل ليس رفاهية، بل دواء خفي، والمريضة التي تؤمن بأن جسدها قادر على المقاومة تتحمل العلاج بشكل أفضل وتلتزم بالخطة أكثر، وبلا شك يحرك الإيمان بالشفاء شيئاً عميقاً في جهاز المناعة، كأن الجسد يستجيب لصوت الروح، كما يلعب الاستماع دوراً كبيراً في مرحلة الشفاء، ودائماً ما أصفه بالعلاج الصامت، فكثيراً ما أجلس مع المريضة، للاستماع فقط والسماح لها بالكلام بحرية عن مخاوفها من الموت، من فقدان الشعر، من غيابها عن أولادها، وأحياناً أجلس معها صامتة، فقط أنظر إليها، وأترك دموعها تنزل بسلام، فالصمت هنا أبلغ من أيّ كلمة، وأتذكر مريضة دخلت العيادة تقول: «أنا انتهيت»، إذ كانت ترى السرطان حكماً نهائياً، ومع كل جلسة كانت تستعيد قطعة من نفسها، إذ ساعدها الفريق الطبي، وابنتها التي كانت تكتب لها رسائل صغيرة تضعها في حقيبتها كل يوم، على استعادة روحها من جديد، فبعد أشهر رأيتها تضحك من قلبها لأول مرة، وعندها أدركت أن العلاج النفسي لا يُعالج المريضة فقط، بل يربطها من جديد بأسرتها وبالحياة».

مجلة كل الأسرة

 ثلاثية النجاة: الإيمان – الدعم – التكيّف

 تلخّص المغيولي سرّ عبور المريضات لرحلة العلاج بنجاح في ثلاث ركائز أساسية، الإيمان وهو ليس إيماناً دينياً فقط، بل إيمان بالمعنى، بأن الحياة تستحق أن تُعاش، والدعم بوجود أشخاص يحبونها، ويحتضنونها حتى في أسوأ لحظاتها، وبالقدرة على التكيّف والنظر إلى العلاج لا كعقوبة، بل كطريق مؤلم يقود إلى حياة جديدة.

كيف تدعمين مريضة سرطان الثدي نفسياً؟

تقدم الأخصائية عزيزة المغيولي خمس خطوات عملية بسيطة، لكنها فعّالة لكل من يرافق مريضة في رحلتها:

  • استمعي أكثر مما تتحدثين: لا تستخدمي عبارات جاهزة، استمعي فقط واسمحي لها بالتعبير عن خوفها بصدق.
  • عامليها كإنسانة لا كتشخيص: لا تجعلي المرض محور كل حديث، بل احكي عن الحياة، عن الطبخ، عن الذكريات.
  • شجّعيها على الاستمرار في أدوارها: ساعديها على أن تمارس ما تحب، وما يذكّرها بأنها ما زالت هي، بكل ما فيها من حياة.
  • امنحيها أملاً واقعياً: احتفلي بتقدمها الصغير في كل مرحلة، فكل يوم تتجاوزه هو نصر جديد.
  • كوني جسرها إلى العائلة: ذكّري من حولها بأن الدعم لا يعني الشفقة، بل الاحترام والمساندة الهادئة.