مجلة كل الأسرة
02 أكتوبر 2025

المها جارالله: الفن 'أسلوب حياة'.. وشغفي ترجمة التراث بطريقة حية ومعاصرة

فريق كل الأسرة

على غلاف
على غلاف "كل الأسرة" لهذا الشهر المها جارالله

تسبر أغوار الثقافة الإماراتية، وتطّل على التراث المعماري والأرشيف العائلي من منظور المرأة، وتسرد الذاكرة بجرأة قد يصوّرها البعض «تمرّداً»، ولكنها في الحقيقة «تدز الحدود» كما تقول، أي تحرّك الحدود، وتدفعها في سياق سردي يعيد صياغة التاريخ، من باب المزج بين الرسم الفوتوغرافي والتركيب.

هذه بعض إضاءات على مسيرة المها جارالله، الفنانة التشكيلية المفاهيمية، التي تجمع بين التقاليد والابتكار، وتروي أعمالها القصصَ المنسية، وتبرز تفاصيل الحياة اليومية، وتمنح المرأة مكانها، بجرأة ووعي.

التقت بها زميلتنا «سلام ناصر الدين» في الاستوديو الخاص بها في منطقة الشمخة، لنتعرف إلى رؤاها الفنية، رحلتها التشكيلية كفنانة إماراتية تحضّر حالياً الماجستير في جامعة نيويورك، وتقضي نحو 4 إلى 6 ساعات لأربعة أيام أسبوعياً، تمارس شغفها بالمزاوجة، عبر رحلتها الإبداعية، بين الأرشيف العائلي والوقائع التاريخية، لتقدّم سرداً بصرياً يعكس تاريخ الإمارات والمنطقة.

مجلة كل الأسرة

في البداية، سألنا المها جارالله عن بداية رحلتها في عوالم الفن ، فقالت «أنا فنانة إماراتية من أبوظبي. عندما قرّرت دخول الجامعة، كانت تشغلني اهتمامات كثيرة، وقضايا أرغب في الحديث عنها، وشعرت بأنّ الفن هو المجال الذي يتيح لي أن أطرق كل اهتماماتي. أتذكّر اليوم الأول لي في جامعة زايد عندما قرأت اسم الفنانة عفراء الظاهري، التي كانت معلمتي. هي علمتني الرسم لأول مرة في الجامعة، وأتوقع أنها السبب الذي جعلني أشعر بالحماس للاستمرار في الفن، لأنني رأيت مثالاً أمامي: امرأة إماراتية تدرّسني كيف أرسم، وكان هذا المحفز الأول لي».

وأشارت كذلك إلى أن الفن قادر بالفعل على أن يترجم ما ترغب في إيصاله، بعد أن نجحت في تحويل البحث إلى عمل بصري «كلما أبدأ سلسلة أعمال، أبدأ ببحث لتكون معلوماتي دقيقة، ثم أترجم البحث إلى عمل بصري. كفنانة، أستطيع أن أعلّق على البحث بطريقة بصرية، وأضيف أبعادي بطريقة شاعرية لا يتمكن منها الباحث، أو العالم. وأكثر الأبحاث التي أقوم بها تدور في فلك الأرشيف والتوثيق. أستخدم أرشيف العائلة، أو أرشيفات البترول البريطاني، والجيش البريطاني، وعلى صعيد التوثيق، أصوّر البيوت الشعبية في أبوظبي. وآخر بحث قمت به كان لمنطقة الرويس، ووثقت البيوت القديمة التي بنَتها شركة أدنوك في «الظنة».

مجلة كل الأسرة

كما وصفت لنا المها شعورها وهي تسير بين السكك القديمة ودروب الماضي، وكيف تبدأ كل مشروع بسؤال (لماذا؟) «كفنانة، أشعر بأنّ من واجبي أن أتطرق إلى أيّ موضوع بطريقة غير سطحية. وأيّ مشروع أبدأه يكون السؤال الأول: لماذا؟ لماذا أرغب في الحديث عن هذا الأمر؟ لماذا أقصد هذا المكان؟ وأكرر «لماذا»، مرات عدّة، لأصل إلى النقطة النهائية، وطبعاً ليست هناك من نقطة نهاية».

وعندما طلبنا منها أن تحدد أكثر محطة تفخر بها، أجابت «السؤال صعب نوعاً ما. مصدر فخري هو إذا استطعت أن أستخدم الأرشيف، وأتطرق فيه إلى حدث تاريخي بطريقة سردية، بمعنى إذا استطعت أن أدع اللوحة تتكلم عن مرحلة تاريخية، أو زمن معين تغيّرت فيهما حياة الناس، كأن أروي قصة طفل، أو عائلة، وكيف مرّت في تلك الحقبة التاريخية، عندها أشعر بأنّني نجحت في توصيل فكرتي.

أفخر بعمل «الذاكرة الخام» الذي قدمته في معرض«فن أبوظبي»، وعرض مع «مبادرة رزق» في الهند مع عدد من الفنانين، منهم لطيفة سعيد، سامو شلبي، هاشل اللمكي. كانت مشاركة هامة لي، لأن العمل عرض عند جمهور مختلف، ما جعلني أرى عملي من منظور مغاير».

 تقول أن أعمالها التي تنجزها وأفكارها تكون من منظور المرأة ، ولكن هذا لا يمنع أن تتطرق إلى مواضيع أخرى تحمل طابع شخص لها «(تضحك) عند الكلام عن المرأة، أحاول استخدام الكلمات الصحيحة. كامرأة، أيّ عمل أقوم به، أو أيّ فكرة أنجزها تكون أوتوماتيكياً من منظور المرأة، لأن أيّ مشروع أقوم به يكون من وجهة نظرها. ولكن هذا لا يمنعني من التطرق إلى مواضيع أهتم بها شخصياً، كهندسة البيوت، وتقسيماتها، والمناطق السكنية في أبوظبي، وديناميكية العائلة، والذاكرة من جيل إلى آخر. في النهاية، هذا منظور أنثوي في كل عمل أقوم به، أو أيّ صور أستخدمها، أو عند الحديث عن جدتي، أو عن نساء في أرشيف العائلة، لأني أفهم منظور المرأة، ولذلك أستخدمها كرمز في أعمالي».

مجلة كل الأسرة

وما دمنا في غمار الحديث في هذا السياق، أردنا أن نعرف كيف تنظر المها إلى حضور المرأة في مجال الفن، فأجابت «الغريب أن الرجل كان دوماً هو المسيطر في مجال الفن تاريخياً، لكن ما يحدث حالياً في الإمارات يختلف. نشاهد كثيراً فنانات إماراتيات، وفنانات مقيمات في الإمارات. أشعر بأن المرأة هنا دائماً مثقفة، وتسعى للدراسة، والتركيز على قضايا ونقاط جوهرية. هذا لا يعني أن الرجل لا يلحق بركب الثقافة، ولكن من الجلي أن المرأة تسعى دوماً للتطوير والتعليم المستمرين. وهناك فنانات من أجيال مختلفة أبهَرننا جميعاً، وأظهرن أن كونك فنانة ممكن، وأن الفن مجال مفتوح. هذا الشيء مهم جداً للأجيال القادمة، من الفتيات في المدرسة وفي الجامعة، ليعرفن أن خوض مجال الفن أمر ممكن، وواقعي».

وفي ظل حضور المرأة الإماراتية في الفن، أكدت المها جارلله أنها لا ترى نفسها مختلفة عن بقية الفنانات، ولكن هناك ما يميزها «لا أرى نفسي مختلفة عن فنانات أخريات، قد تكون المثابرة ما يميّزني، وكوني أعتبر الفن «أسلوب حياة». أسأل دائماً: لماذا؟ وأسعى دوماً للمعرفة والتعلم في المجتمع. عندما أذهب إلى الخارج، أشعر بأن حياتي لا تعدّ طريقة حياة عادية، وهذا يجعلني أراجع منظوري، وأتساءل عن القيم والأبعاد التي أقدّمها في عمل، وهي لا تنفصل عن حياتي الشخصية».

وعودة إلى بداية مسيرتها، بيّنت المها أن الدعم الذي تلقته كان له أثر بالغ في التغلب على التحديات آنذاك «الحمد لله، أتلقى دعماً من أهلي. هذا الاستوديو منحني إيّاه الوالد في بداية المسيرة التي شابها الخوف، ولكنه زال مع تلقي الدعم».

معارض المها جارالله تحمل بعداً توثيقياً ومجتمعياً ومنها معرض «بين الجسور»، فهي شغوفة بترجمة التراث بطريقة معاصرة «أرى أن أيّ شيء حدث في الماضي له تأثير، ولو بسيط، ومن ذلك حركة الجسد. عندما أتعلم شيئاً عن التاريخ، حتى عند ذهابي إلى مركز تسوق مع أهلي، أرى حولي كيف يترجم هذا الشيء في وقتنا المعاصر. وأقوم حالياً ببحث عن الإيماءة الجسدية، وعلاقتنا بالكرسي. نحاول أن نبسط علاقة أجسادنا بالكرسي: نجلس على كراسيّ أرضية، ثم على كراسيّ صوفا، وكراسيّ الطعام، ونلاحظ الشباب الذين يرتادون المقاهي وتربطهم علاقة ما مع الكرسي. كل هذا توثيق، ودراسة الفن الأدائي لشخص جالس على الكرسي».

مجلة كل الأسرة

 قد يرى البعض جرأة لدى المها جارالله في التعبير وفي المظهر، ولكنها ترى أن لكلمة «تمرّد» مفهوم مختلف عندما يتعلق الأمر بالفنان «كلمة «تمرّد» للفنان لها معنى آخر. عندما أشعر بأني أتمرّد يكون هذا التمرّد بدافع أن «أدز الحدود»، أي أحرّك الحدود، للحديث عن قضايا من الهام التطرق إليها. وحتى لو كان مظهري جريئاً، تجدين عناصر فخري بكوني إماراتية، سواء في الإكسسوارات، أو الزي نفسه. قد يبدو في واقع الحال تمرّداً، لكني كفنانة، أعتبر أني«أدز الحدود» في إطار المرأة الإماراتية، من دون التشبه بأحد».

ولكن ما هي الأشياء التي استطاعت المها تحريكها في أعمالها؟ «على صعيد الفن، أتكلم عن أحداث جرت في الماضي. جدّتي، والنساء في عائلتي، كنّ يظهرن بمظهر معيّن، وهذا جزء من تاريخ أغلب الوطن العربي في الكويت، البحرين ومصر، وأغلب الدول، حيث كانت الممثلة شادية نموذجاً ورمزاً لمرحلة كاملة، وحتى كانت جدّتي تحمل اسمها.

أتناول تواريخ من الخليج، أو الجزيرة العربية، لحظات أشعر بأنها بدأت تُنسى، أو تُمحى بمرور الزمن. ما أحاول إحياؤه في أعمالي هو تلك الذكريات التي تتلاشى، كي أُبقيها حيّة ومؤثرة. لا أتحدث عن الأفراد كأشخاص بعينهم، بل كرموز لجيل بأكمله. الشخصية في العمل يمكن أن تكون أيّ أحد، من أيّ ألبوم عائلي، تمثل جماعة من الناس عاشوا في مكان وزمان معينين. لذلك، لا أُبرز الملامح، بل أركّز على كل ما يحيط بالشخص: حركة الجسد، الألوان، الديكور، وكل التفاصيل المحيطة التي تُكوّن ذاكرتنا الجماعية».

مجلة كل الأسرة

كما حدثتنا المها عن آخر أعمالها، ويتناول العملات كوسيط ثقافي وتاريخي «ضمن مسيرتي في استكمال دراسة الماجستير في جامعة نيويورك، قدّمت معرضاً يتناول فترة الاحتلال البريطاني في مدينة عدن، مركّزاً على العملات المتداولة آنذاك. من عملة «East Indian Company»، والعانة أو الروبيّة، إلى الشلن البريطاني المعروف آنذاك باسم «الشلن الجنوب عربي»، ثم شلن «الجمهورية الديمقراطية اليمنية»، وصولاً إلى الريال اليمني الحالي. جمعت صوراً وأمثلة موثقة لكل هذه العملات، وقمت بتصويرها بنفسي، في محاولة لتقديم سرد بصري دقيق يعكس التحولات السياسية والاقتصادية من خلال العملة، كوسيط ثقافي وتاريخي».

وفي سؤالنا الأخير الذي وجهناه إلى المها جارالله، رغبنا في معرفة فيما إذا كان الزواج من ضمن خططها المستقبلية، فردت «نعم. لم لا. آمل ذلك». وأكدت أن الشريك يمكنه فهم هذه العوالم التي تعمل عليها «طبعاً، في حال كان الشخص المناسب. فالفنان ليس بالضرورة أن يكون مجنوناً، أغلب الفنانين لديهم صفة الجنون الإبداعي. أشعر بأنني أمارس مهنتي بعمق، وأجعل عائلتي فخورة، وأحاول أن أكون مثالاً جيداً كفنانة إماراتية».

* تصوير: نافع العامري