انتهت أعمال الدورة الـ 82 من مهرجان فينيسيا السينمائي بإعلان النتائج في مسابقة هذه الدورة والتي بلغت 19 فيلماً. وبينما فاز الفيلم الأمريكي «أب أم أخت أخ» بالجائزة الأولى، تم منح فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية وعنوانه «صوت هند رجب»، الجائزة الفضية في المهرجان.
تمتع هذا الفيلم بأفضل استقبال لم يتحقق لأيّ من أفلام المهرجان. ليس لأن التصفيق الحاد الذي تبع عروضه امتد لأكثر من عشرين دقيقة فقط، بل أساساً لأمانة وإخلاص عرضه لتلك المأساة التي انتهت باستشهاد الفتاة بعدما طال انتظارها للنجدة.
عدد من النجوم العرب والأجانب على البساط الأحمر لمهرجان فينيسيا وهم يحملون صورة الطفلة الفلسطينية هند رجب
الدراما والواقع
ليس هذا الفيلم هو أفضل أفلام المخرجة التونسية كوثر بن هنية فقط، بل واحد من أفضل أفلام مهرجان فينيسيا أيضاً. كان الاحتمال أن يخرج الفيلم بجائزة أولى، أو ثانية كبير، لكن إذا فعل ذلك، أو لم يفعل، فإن الثابت هو أنه فيلم الساعة، وسيبقى كذلك لأمد بعيد.
جزء من هذه الديمومة يعود إلى الوضع الماثل في غزّة الذي بات طرحاً عالمياً بين الناس والأنظمة، على حد سواء. لكن الجزء الأهم والأكبر هو الطريقة التي اختارت فيها المخرجة معالجة موضوع تلك الفتاة، هند رجب، التي تداول العالم مأساتها عندما قصفت القوات الإسرائيلية السيارة التي كانت تنقلها، وأقارب لها. لا تقوم المخرجة بعرض ما حدث كسرد قصصي، بل تضيف إليه ثنايا ودقائق الحدث نفسه. تكشف عن الواقع الكبير لمحنة غزة ومن فيها، من خلال موقع واحد وهواتف متبادلة.
مركز للهلال الأحمر في رام الله يتلقى هاتفاً عن قصف طال تلك السيارة، ويطلب من المركز التحرك لإنقاذ الفتاة (نسمع صوتها ولا نراها).
الدراما ليست فقط في محاولة إنقاذ تلك الفتاة التي تكوّمت جثث الضحايا فوقها في تلك السيارة، بل أساساً في أيدي المركز المكبّل بقوانين وقواعد عليه أن يتعامل معها، قبل أن تبدأ رحلة وصول الهلال الأحمر في غزّة إلى الضحية، بما في ذلك التعامل مع الجيش الإسرائيلي نفسه. في واحدة من مشادات عدة بين عمر ورئيسه مهدي (عامر هليهل)، يصرخ الأول: «تطلب الإذن من الجيش نفسه الذي قتل ضحايا السيارة». لكن مهدي ليس جباناً، ولا يقل تأثراً بالوضع من أي من العاملين في مكتبه. كل ما في الأمر أنه مربوط بخيارات محدودة كل منها ينطوي على اتصال بجهة عليها، بدورها الاتصال بجهة أخرى لكي يتم فتح طريق إلى تلك المنطقة من المدينة التي ارتكبت القوات الإسرائيلية فيها تلك المجزرة.
لا أحد يستطيع
الأحداث الممثلة تقع في ذلك المركز. ببراعة تستخدم بن هنية التسجيل الصوتي الأصلي للفتاة هند التي لن نراها، لأن الكاميرا لن تنتقل إلى حيث السيارة لكي تصوّرها. هذه ميزة بالغة الأهمية، لأنه لو فعلت المخرجة ذلك لحوّلت الفيلم إلى دراما عاطفية مباشرة، عوض ما تسجله في ساعة ونصف الساعة من تأثير. هو صدمة تلقي الضوء على مأساة تقع، ولا يستطيع أحد التدخل لإنقاذ فتاة تستنجد عبر الهاتف. بذلك التمثيل فقط في الماثل في مكاتب رام الله. الباقي هو دور للصوت عبر الهواتف التي يتم بين الضحية التي لا تستطيع الحراك، وموظفي المركز الذين- بدورهم- لا يستطيعون فعل أي شيء.
عند النهاية فقط تنتقل الكاميرا إلى سيارة مهشّمة وسط ركام الحي بأكمله، وبعد موت الفتاة داخلها. لا تكتفي بن هنية بهذه اللكمة النفسية التي تتلو صدمة الفيلم كله، بل تصوّر حقيقة أن القوات الإسرائيلية لم تكتف بقصف السيارة المدنية بل سدّدت ضربتها بعد ذلك إلى سيارة إسعاف الهلال الأحمر، وقتل سائقها، ومسعفه، على بعد أمتار قليلة في تحدٍّ وإثم واضحين.
المخرجة التونسية كوثر بن هنية تحمل صورة الطفلة الفلسطينية هند رجب في مهرجان فينيسيا السينمائي
يلعب «صوت هند رجب» دوراً كبيراً في توجيه مشاهديه للحقائق. لا يحتاج إلى حكاية أكبر من تلك المعروضة، ولا إلى أن يلعب دور المرشد لتأليب المشاهدين ضد الواقع المخزي الذي يقع في فلسطين، بل يقدّم الحالة بما هي عليه من واقع. تأثيره يُقاس برسالته، وكيفية توضيب تلك الرسالة فنيّاً، عبر إخراج وتوليف وفن صوت وصورة، وحقائق لا تغيب.
«صوت هند رجب» هو فيلم بسيط التكوين عن حكاية حقيقية موثّقة ومسرودة بصدق. لا ريب في أنه من ناحية أخرى ينتهز الحادثة لمصلحته، لكن هذا لا قيمة له أمام ما يعرضه.