كان يبدو عليها أنها سيدة متقاعدة. لربما كانت معلمة قضت في مدارس الدولة عمرها، أو ممرضة أفنت شبابها في خدمة الموجوعين. صادفتها في السوبرماركت، وبالتحديد في قسم الفواكه والخضار. كانت الرفوف تزهو بالألوان، وبالبضاعة المحلية، أو المستوردة من أربعة أطراف العالم. أعناب، وحمضيات، وبطيخ بألوانه، وتفاح، وكمثرى، وكل تلك الفواكه الصيفية الصغيرة المنمنمة التي تلتهمها العين قبل الفم.
تطلعت نحوي السيدة المسنّة وهي تشير إلى لافتة السعر الموضوعة على التين الأسود. سألتني: «هل ترين ما أرى»؟
قرأت اللافتة وفوجئت. كان السعر 18 يورو للكيلوجرام الواحد. أي بحدود 20 دولاراً. تذكرت أننا في موسم التين، وأن سعره في الصيف الماضي كان النصف. وكما هي عادتي في السرحان والتفكير في تلك البلاد، طافت في ذهني سلال التين الأبيض والأسود في أسواق مدينتي العراقية الشمالية. ذاك الذي يفوق العسل حلاوة. أو كما وصفه الشاعر «يسيل على الشفة العاصرة». كنا نقطفه من أشجار الحقول مباشرة، أو نشتريه من السوق بسعر زهيد، مثلما نشتري التمر، والنبق، والعنب، والتوت. وآه من اشتياقي إلى التوت بلونيه، الفاتح والغامق. كان يباع على العربات مكوّماً في أهرام هي متعة للناظرين.
أعادتني السيدة من خيالاتي وهي تخبرني أن ميزانيتها لم تعد تسمح لها بمجاراة جنون الأسعار. ثم أضافت بصوت هامس: «آتي إلى هنا كل يوم، وأتذوّق من كل فاكهة بضع حبّات كأنني أنوي الشراء، ثم أخرج بعد أن أشبع رغبتي، ولا أشتري شيئاً. أليس من حق محدودي الدخل أن يتذوّقوا خيرات الدنيا»؟
ابتسمت لها، ولم أعلّق. تركتها في متعتها العابرة، وأنا أعرف ما تخبرنا به نشرات الأخبار، كل يوم، عن عجز العائلات الفرنسية المتوسطة عن مجاراة ارتفاع أسعار المواد الغذائية. هناك أمّهات لا يطبخن اللحم سوى مرة كل أسبوعين. وهنّ أمّهات عاملات متزوجات من رجال يعملون. ومع هذا لا تعرف الأسرة كيف تصل بالمرتب إلى آخر الشهر.
كانت جارة لي تذهب إلى السوبرماركت، وتأخذ عربة المشتريات، وتدور بها من ممر إلى ممر. تضع فيها كيساً من الرز، وكيسين من السكّر، وعدة أنواع من الفواكه، والأجبان، والعصائر. وبعد ساعة تقضيها في اختيار ما ترغب فيه، تعود وتدور على الرفوف نفسها وتعيد كل شيء إلى مكانه. تخرج من المتجر وهي مرفوعة الرأس لأنها مارست متعة التسوّق، مثل ربّات البيوت المقتدرات، حتى لو خرجت فارغة اليدين.
تقول مذيعة النشرة إنه زمن صعب. نعم. وهناك حرب أوكرانيا تلتهم المساعدات، وحرائق الغابات تشعل قلوب آلاف الذين تحوّلت منازلهم ومزارعهم إلى هباء. يحدث هذا في أوروبا، جوهرة الكرة الأرضية.
اقرأ أيضاً: إنعام كجه جي تكتب: قم للمعلمة