31 أغسطس 2025

منى المهيري: التراث الإماراتي أسلوب حياة و«سوق القطارة» شريانه النابض

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

اختارت الانتقال من العمل الأكاديمي إلى مجال التراث والثقافة في دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي، ومن خلال توليها مسؤولية إدارة سوق القطارة في العين، أحد أبرز المعالم التراثية في الدولة، تتمسك بالعادات والتقاليد التي تجد أنها ما زالت حاضرة بقوّة في المجتمع الإماراتي.

تُعّد منى المهيري، مديرة سوق القطارة في مدينة العين، نموذجاً مشرّفاً للقيادات النسائية الإماراتية التي تعمل على إحياء التراث الإماراتي. فعلى مدى سنوات، استطاع سوق القطارة التراثي أن يشكّل وجهة ثقافية متكاملة، تحتضن الفعاليات التراثية السنوية، وتدعم أكثر من 100 أسرة منتجة إماراتية، ومركز حيوي، لتعريف الزوار والطلبة بالتراث.

مجلة كل الأسرة

كيف بدأت رحلتك في هذا المجال؟

كنت أعمل سابقاً في جامعة الإمارات، وأحببت التغيير في مجال عملي رغبة في تطوير ذاتي، وتم قبولي في دائرة الثقافة والسياحة، حيث وجدت أن لدّي المقدرة على إعطاء الكثير في هذا المجال. فالتراث الإماراتي رمز، وفخر، ومصدر اعتزاز، ونحن نعتز بهويتنا الوطنية، ولا ننسى تأثرنا الكبير بالمغفور له مؤسس دولة الإمارات، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، في الحفاظ على التراث، ونتبنى منهجه في تحقيق التوازن بين النهضة العمرانية والحفاظ على التراث، وهذا كان له دور أساسي وكبير في تحبيبنا بالتراث، وكمجتمع، ما زلنا نحافظ على العادات والتقاليد إلى اليوم.

سوق القطارة من أقدم الأسواق في الدولة، ماذا تحدثينا عن تاريخه وعن خباياه؟

يعتبر سوق القطارة من أقدم الأسواق في مدينة العين، الملقبة بمدينة الواحات، ويعود تاريخه إلى منتصف القرن العشرين، أسّسه المغفور له الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، وتم افتتاحه عام 1976 للمرة الأولى، ومن ثم أعيد إحياؤه، وترميمه، وافتتاحه أمام الزوار عام 2012 بشكله الحالي، وتم الحفاظ على كل معالمه من دون أيّ تغيير، باعتماد طرق ترميم تحافظ على نمطه التقليدي. وسابقاً، كان سوق القطارة يعدّ عصب مدينة العين وروحها، حيث كان يلعب دوراً كبيراً في تبادل البضائع، وبيعها، وشرائها، ويعتبر ملتقى التجار من إمارات مختلفة، وفي الصيف كان أهل الإمارات الأخرى يتجمعون في تلك البقعة لقضاء الصيف في العين، إلى جانب عقد الحلقات الشعرية، وتعليم الكثير من الأنشطة، وكان الأهل يقصدونه لتعليم أبنائهم العادات والتقاليد والسنع، ويتواصلون مع كبار السّن، وكان هناك المطوّع، أو الكتّاب، يتعلم الأبناء فيه القرآن الكريم.

مجلة كل الأسرة

وكيف أسهمت جهود الترميم والفعاليات التراثية في إحياء سوق القطارة؟

كان السوق يضم 19 محلاً، من الطين، ويتواجد بالقرب منه مجلس، وكان يطلق عليه مسمّيات كثيرة، منها «سوق كركم»، أو «سوق الرقعة». فقد كانت المحال تتضمن الأعشاب والتوابل، العسل، منتجات البقالة التقليدية، المنتجات الخشبية والسعفية، الغزل، السدّو والتلي، والأعمال اليدوية. وفي الوقت الراهن، حاولنا تفعيل السوق عبر فعاليات تراثية سنوية لتعزيز الهوية الوطنية، بهدف إلمام الجيل الجديد بالتراث، والحفاظ عليه، ومعايشته. وكانت الإضافة بافتتاح سوق الأسر المنتجة، ودعمت دائرة السياحة والثقافة 100 أسرة منتجة في سوق القطارة. وهناك فعاليات على مدى العام، وهو موسم سوق القطارة في الشتاء، يتزامن مع مناسبات تراثية ووطنية تهدف لتعزيز الهوية الوطنية عبر زيارات مدرسية، يتعرف فيها الطلاب إلى المكان، وإلى تراثنا، وينخرطون في ورش تعليمية تراثية لتعلّم السنع والحرف التراثية القديمة. مجتمعنا الإماراتي ما زال متمسكاً بالتراث التقليدي، حتى الأسر المنتجة تعرض ملابس تراثية تقليدية بلمسات معاصرة، من دون المساس بالهوية.

منى المهيري: المجتمع الإماراتي ما زال متمسكا بالتراث
منى المهيري: المجتمع الإماراتي ما زال متمسكا بالتراث


أنت مديرة سوق القطارة منذ عام 2013، كيف عايشت 12 عاماً من التماس مع التراث؟

التراث هو كنز يومي نكتشف فيه شيئاً جديداً، ونتعلم منه باستمرار. تماسّي مع الأسر المنتجة، أو كبار السن، ومع جميع الفئات العمرية، أكسبني معارف قيّمة عن أمور لم أكن أعرفها سابقاً، أو ربما كنت أرى الأمور من منظور مختلف. فقبل التطور، كانوا يعتمدون على الأعشاب بشكل أساسي، وكنت أعتقد أن هذا قد يكون خاطئاً، واليوم، بتّ أجد أنه أكثر فائدة ربما، مقارنة بالأدوية الحديثة.

نشكل عائلة واحدة متكاملة، وهناك العديد من القيم كالصبر، والمثابرة، والمعلومات التي تعلمتها، وأستمر في التعلم من كبار المواطنات حتى اليوم. تعلمت كيف يمكن للإنسان إذا أراد تحقيق شيء أن يصل إليه بالجهد والمثابرة. ومن الجميل أن ترى امرأة كبيرة في السن، ربما في السبعين من عمرها، ما زالت تحمل الشغف للعمل، والاعتماد على نفسها.

مجلة كل الأسرة


ما هي البصمة الأبرز التي طبعتها خلال مسيرتك في السوق خلال هذه السنوات؟

إحدى المبادرات التي عملت عليها كانت مجرّد فكرة في البداية، وبدعم فريق العمل، قمنا بتحويلها إلى واقع. طرحت فكرة إنشاء سوق مرافق للسوق القديم، وبدأت العمل على مشروع سوق الجمعة، الذي كان يُعرف سابقاً بـسوق الأسر المنتجة. انطلق السوق بداية بثلاثين محلاً فقط، وفي كل محل شاركت امرأتان من الأسر المنتجة. ومع مرور السنوات، لاحظنا الإقبال المتزايد من الناس، وتشجعت النساء على الانضمام للمشروع، وحالياً، تدعم دائرة الثقافة 100 أسرة منتجة، وعلى الرغم من قدرتنا على دعم المزيد، إلا أن التحدّيات المتعلقة بالمكان تعيق ذلك.

هذه الأسر المنتجة كانت في الماضي تعمل من منازلها، وبعض النساء كانت لديهنّ هذه المهارات كهواية، أو كنّ يمارسنها بشكل يومي. ومع تطور الزمن، بدأت بعض الحرف بالاندثار، لكن هؤلاء النساء تمكّنّ من الحفاظ على هذا التراث، واستمررن فيه. فنحن ما زلنا نستخدم السعفيات في بيوتنا، وما زلنا نرتدي الملابس التراثية، مثل التلي، والإضافات التقليدية التي كانت تُزين الملابس قديماً. هذه المنتجات تعكس ارتباطنا بتراثنا، وتُظهر كيف أنّ هؤلاء النساء بدأن بهذه الأعمال منذ زمن، وما زلن مستمرات في الحفاظ عليها وإحيائها من خلال شغفهنّ وإبداعهن.

ما يُسعدني حقاً هو هذا الإحساس بالانتماء، أن تكون في مكانك وتشعر بأن كل من في سوق القطارة قريب منك

نستشف من كلامك الحضور القوّي للمرأة في مجال التراث... كيف ترصدين ملامح هذا الدور؟

المرأة الإماراتية ما زالت محافظة على تراثها، وهي تواكب التطور من دون أن تفقد ارتباطها العميق بهذا التراث العريق. فبينما يظل الشكل التقليدي هو الأساس، يتم تطويره من خلال تغليف عصري، أو إضافة عناصر مبتكرة، ما يعكس القدرة على المزج بين الأصالة والابتكار. وتمثل المرأة الإماراتية وطنها بفخر، داخل الدولة وخارجها بزيّها التقليدي التراثي، ومنه العباءة والمخورة، ما يعكس قدرتها على التعبير عن الهوية الوطنية بكل إبداع وحرفية.

ثمة تحدّيات تواجه الأسواق التراثية راهناً، هل من خطط لتطوير سوق القطارة في المستقبل؟

يشهد سوق القطارة جهوداً حثيثة من الجهات المختصة لضمان استمراريته وتطويره، حيث يجري العمل حالياً على تنفيذ عدد من المشاريع والخطط التي من شأنها أن تواكب العصر، وتُلبي احتياجات الزوّار. ومن بين المقترحات الجارية دراستها، تكييف السوق ليتسنى استقباله للزوار على مدار العام، لا سيما وأن نشاطه الحالي يقتصر على موسم الشتاء فقط. كما يحظى دعم الحرفيات باهتمام بالغ، إذ تُولِي الإدارة المختصة اهتماماً كبيراً بتميّز كل أسرة ومنتجها الخاص. وتقوم الإدارة بشراء المنتجات المميّزة من الأسر، والترويج لها، وعرضها في منصات متنوعة بهدف تسويقها ودعم أصحابها، ويُعد هذا التوجّه جزءاً من استراتيجية متكاملة لتمكين الأسر المنتجة، والحفاظ على استمرارية الحرف التقليدية.

من مهرجان الحرف والصناعات التقليدية في سوق القطارة.
من مهرجان الحرف والصناعات التقليدية في سوق القطارة.

ما هي ذكرياتك من طفولتك المرتبطة بالتراث، وما الصور التي تستعيدينها؟

من ذكرياتي المرتبطة بالتراث، أتذكّر كيف كنا نبتكر ألعابنا بأنفسنا، في زمن لم تكن فيه الألعاب متوفرة، كما هو الحال اليوم، حيث كانت النساء والفتيات يصنعن عرائس من القماش. وكنا نذهب إلى الخياط الموجود في كل فريج ونجمع منه قطع الأقمشة الفائضة. نأخذها إلى البيت ونضعها في علبة فارغة، مثل علبة «ماكنتوش»، ثم نبدأ بخياطتها بالإبرة. كنا نراقب أمهاتنا وهنّ يخطن، ونتعلم منهنّ، وبتشجيعهنّ لنا بدأنا نخيط بأنفسنا، ونصنع ملابس خاصة لعرائسنا. تلك اللحظات البسيطة أسهمت في غرس حب الحرف اليدوية فينا منذ الصغر.

وثمة ذكريات ارتبطت بالمناسبات التراثية التي كنا نحييها بشغف، ومن أبرزها فعالية «النصف من شعبان». كنت أشعر بسعادة كبيرة عندما أشارك في تنظيم هذه الفعالية، لأنها تعيدني إلى أيام الطفولة. كنا نستعد لها بخياطة ملابس تراثية خاصة بنا، إضافة إلى كيس صغير يتم تفصيله من نوع القماش نفسه، أو من المتاح لدينا. في تلك الليلة، كنا نخرج مع أقراننا، ونتجول بين البيوت، نطرق الأبواب لجمع المكسرات والحلويات، في جو من البهجة. هذه الذكرى لا تزال حاضرة في قلبي حتى اليوم، وأحرص على الاحتفال بها سنوياً، لأنها تمثل جزءاً جميلاً من تراثنا وهويتنا التي نعتز بها.

مجلة كل الأسرة

كيف أسهمت تجربتك في إدارة السوق في تعزيز ارتباطك بالتراث الإماراتي؟

خلال فترة إدارتي للسوق، لم أشعر يوماً بأني مجرّد مسؤولة تتعامل مع الآخرين من موقع رسمي، أو إداري. على العكس تماماً، كنت أشعر كأني واحدة من أهل المكان، أعيش بينهم، وأشاركهم يومياتهم، كأننا أسرة واحدة. لم يكن هناك أي حواجز، نعمل بروح واحدة، نتعاون ونتواصل كما تفعل الأسرة في بيتها. وهذه الروح هي التي جعلت من السوق مكاناً نابضاً بالحياة والانتماء.

فالسوق يضّم العديد من الحرف اليدوية وقد شدّتني بشكل خاص حرفة السدو، وكنت دائماً أتمنى أن أتعلمها، إلى جانب صناعة الخوص. فهذه الحرف تتطلب دقة عالية، وتقنيات خاصة، وتجسّد جمال التراث الإماراتي وأصالته، وتحمل في طياتها الكثير من المهارة والإبداع. فالتراث يعتبر خلاصة ما تركته الأجيال السابقة للأجيال الحالية، ليكون نهجاً يستقي منه الأبناء الدروس، ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل.

وهل مارست بعض هذه الحرف؟

أعترف بأنّ عملي في مجال التراث أثر في حياتي الشخصية، وفي مناحي اهتمامي بالديكور، في المنزل والحديقة. كما أني أعشق ركوب الخيل. وقد ترك التراث ملامحه في مجال عملي الخاص، كوني مصممة أزياء وحقائب. ويمكن القول أنّ تصاميمي تزاوج بين الأناقة الكلاسيكية والهوية الوطنية وتحوي عناصر زخرفية ورمزية، وتشكل التصاميم هوية بصرية تحمل كل معاني الانتماء.

من تصاميمها
من تصاميمها

وما الذي تطمحين إليه لمستقبل هذه الحرف؟

نظرتي للمستقبل ترتكز على ضرورة الاهتمام أكثر بالتراث، وتقديمه بشكل أجمل وأرقى يواكب تطلعات العصر، حتى يتمكن العالم من رؤية تراث دولة الإمارات بجماله وأصالته، وكيف أننا، رغم كل مظاهر التطور، ما زلنا نحافظ عليه بكل فخر واعتزاز.

ومن الهام أن نوصل هذا التراث للأجيال الجديدة كجزء حيّ من هويتنا وثقافتنا اليومية، ونزرع في نفوس الأطفال والشباب حب التراث، ونعلمهم الحِرف والمفاهيم والقيم التي نشأنا عليها، ليشعروا بالانتماء ويكملوا هذا المشوار من بعدنا. وأفتخر بكوني جزءاً من جهود الحفاظ على التراث الإماراتي.

سبق وترشحت للمجلس الوطني الاتحادي، ما القضايا التي تشغل يومك وتركزين عليها؟

نعم، ترشحت للمجلس الوطني الاتحادي، وكانت ثمة قضايا اجتماعيه طرحتها، منها المحافظة على التراث عن طريق تعليم الجيل على السنع، والعادات والتقاليد، ودور الأسرة الأساسي في ذلك. فمن البديهي أن يقتفي الجيل الجديد أثر من سبقوه، ويتلمس روح الأصالة. والقضية الأهم التي تشغلني هي الحفاظ على الهوية الوطنية، وحماية المجتمع من الأفكار الدخيلة عليه.