18 أغسطس 2025

قراءة في سيرة يوسف شاهين «حدوتة مصرية»

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

مجلة كل الأسرة

أنجز المخرج الأشهر في بلاد العرب، يوسف شاهين، العديد من الأفلام المهمّة، والجديرة بالإعجاب، لكن من بين أعماله تلك الرباعية التي خصّها لسرد سيرة حياته. نختار منها الجزء الثاني المسمّى «حدوتة مصرية»، لإلقاء نظرة ثانية، بعيداً عن الإعجاب الجاهز..

مجلة كل الأسرة

«حدوتة مصرية» (1982)، هو الفيلم الثاني في رباعية شاهين التي بدأت بـ«الإسكندرية ليه» (1979)، وشملت أيضاً «الإسكندرية كمان وكمان» (1989)، وانتهت بـ «إسكندرية نيويورك» (2004).

ما يميّز «حدوتة مصرية» أنه محاكمة، بطلها شاهين، والمتهم فيها هو شاهين نفسه. المحاكمة تقع في خلايا الذاكرة، ويصوّرها شاهين فيما يشبه الشرنقة التي تضمّ نور الشريف لاعباً دور شاهين، وقاضياً، ونائباً عاماً، وجمهوراً.

هناك قدر من السوريالية في هذا الوضع، لكن ليس حسب الفن السوريالي، بل أقرب إلى تركيبة خيالية مناسبة وضعها المخرج في تصميم إنتاجي خاص، (ديكورات وألوان وشخصيات). مشاهد المحاكمة ليست متتالية، أو مستديمة، بل يخرج الفيلم منها، ويعود إليها بضع مرّات.

مجلة كل الأسرة

قيام مخرج بمحاكمة نفسه أمام الجمهور الذي يُشاهد الفيلم في جانب، والشخصيات التي عايشها في جانب آخر، فكرة نيّرة، لكن الفيلم لم يحمِها من تقلبّات عدّة، من بينها أن ثورته ضد نفسه لا تكاد تبدأ حتى يواجهها المخرج بثورة ضد الآخرين، وضد الظروف السياسية التي يذكر أنها أحاطت به بعد ثورة 1952. ما هو مفقود هنا قدر أعلى من الحقيقة، ونسبة أقل من الخيال، وعدم الدفاع عن اختياراته بعد نقدها.

كذلك قدر أعلى من الحقائق. على سبيل المثال، يتحدث شاهين عن ابنته الصغيرة، وهو الذي لم ينجب، وعن أنه كان ناقداً للثورة في عهد جمال عبد الناصر، وهذا لم يحدث، وإن حدث قبل ذلك فليس في الفيلم ما يؤيد ذلك.

إلى هذا يتوقف يوسف شاهين في الفيلم عند فيلمه الجيد «باب الحديد»، متحدّثاً عن أنه لم يجد التمويل اللازم لحضور مهرجان برلين الذي عرض له ذلك الفيلم، وأن لجنة التحكيم أرادت منحه الجائزة الأولى لولا معارضة بعض أعضائها.

لكن في حديث خاص بيننا ذكر لي أن جمهور برلين كان يعتقد، تبعاً لشخصية شاهين التي مثّلها بنفسه في ذلك الفيلم، أن المخرج- الممثل هو أعرج: «لما شافوني بمشي عادي على مسرح الصالة فوجئوا…».

فما هي الحقيقة؟ هل حضر مهرجان برلين، كما قال لي، أم لم يحضر، كما قال في فيلمه؟

ما يعرقل سيرته في «حدوتة مصرية»، كما في رباعيته الذاتية عموماً، مزجه ما حدث مع ما لم يحدث (وهناك العديد من هذا التناقض)، بغاية إرضاء نزعة إعجاب بالنفس، ورغبة في التباهي. ينتقد ذاته لكنه يمنعها من إدانته في مشهد آخر، ويؤكد  نبوغه مباشرة في كل الحالات.

مجلة كل الأسرة

ملابسات فيلم

ينطلق الفيلم من تعرّض يحيى لنوبة قلبية يضطر خلالها للسفر مع طبيبه (أحمد محرز)، إلى لندن. حالما يدخل في غيبوبة يفتح نوافذ الذكريات، بما فيها مشاهد المحاكمة، حيث يسمح لنفسه بمحاكمة ذاته. كل هذا واضح وجهد شاهين لإتمام مشاهده داخل الشرنقة السوريالية، أو خارجها ثابت، لكن هناك دوماً الشعور بأن المخرج أخفى أكثر مما أبدى، وفي فيلم هو جزء من سيرة حياته.

بعد أن يمضي الفيلم بعض الوقت في مدينة «كان»، ومهرجانها حين عرض «ابن النيل» سنة 1951، ينتقل إلى فيلم «جميلة» (1958). تبدو اختيارات شاهين هنا مشوّشة حيال تلك الفترة. يريد أن يحكي «حواديت» كثيرة، في وقت محدّد، من دون الإفصاح كثيراً عن مضامين بعضها. بعد فشل في «كان»، نجاح محدود في مهرجان موسكو حين عرض «جميلة». ثم هناك فقرة طويلة حول ملابسات عرض فيلمه اللاحق «باب الحديد»، في مهرجان برلين.

أعتمد شاهين على تأليف أدوات تعبير تنطلق من ذاته ورؤيته. طبعاً كان بدأ بإخراج أفلام عادية المستوى (أو أقل في عدد منها)، لكن من السبعينيات انصرف لإنجاز أفلامه الأهم (باستثناء «باب الحديد» في الخمسينيات). انتمى إلى النبتة المصرية فيه، غير أنه استلهم من الثقافات الأجنبية ما يكفي ليترك في أفلامه تأثيراً شكلياً هاماً، نراه في إدارة الممثلين، وفي اختيار زوايا وأحجام اللقطات، وتحريك الكاميرا، كما في المونتاج، والإيقاع العام للفيلم الواحد. يُحسب له ذلك في كل أفلامه في السبعينيات، وما بعد.

اقرأ أيضاً: في ذكرى ميلاده.. لمحات من مشوار المبدع يوسف شاهين