
في مدينة كلباء، وبين تفاصيل الحياة اليومية، ينبض متحف خاص ليس مجرد مكان لعرض القطع التراثية، بل يمثل رحلة شخصية وإنسانية لرجل اختار أن يحفظ تاريخ وطنه بيديه، قطعة بعد أخرى، ليكون شاهداً حيّاً على ماضٍ مجيد ما زال يعيش في ذاكرة المكان والإنسان.


بدأت قصة متحف راشد علي النهم منذ عام 1985، حين انطلقت من شغف بسيط بجمع المجلات والصحف القديمة، بدافع توثيق التراث، وحفظ الذاكرة الثقافية، لتتحول مع مرور الوقت إلى متحف منزلي خاص عام 1990، يجمع مقتنيات تراثية نادرة تعبّر عن تفاصيل الحياة الإماراتية في الماضي، من أدوات، وملابس، وعطور، ومشغولات تقليدية. وبفضل جهود راشد علي النهم المستمرة، وحرصه العميق على حفظ الهوية الوطنية، تم منحه متحفاً رسمياً، يخضع اليوم لإشراف معهد الشارقة للتراث، ليصبح صرحاً ثقافياً، يُسهم في حفظ الموروث الشعبي، ونقله إلى الأجيال الجديدة.


يتكون المتحف من ثماني غرف رئيسية، كل منها تمثل مشهداً من مشاهد الحياة القديمة، وتضم هذه الغرف مقتنيات شخصية تعود إلى صاحب المتحف، مثل الشبرية، والكبت، والغرشة، والعطورات، والدخون، والمرشاة، والمكاحل، إضافة إلى المندوس، والتنكة، والسحارة، وغيرها من الأدوات المستخدمة في البيوت الإماراتية التقليدية. كما يحتوي المتحف على مجموعة مميّزة من الملابس التراثية، التي تُظهر الفروقات في الأزياء بين الرجال والنساء، في الماضي، وتوثّق أنماط الأناقة والتقاليد السائدة في المجتمع القديم.


وفي جولة لـ «كل الأسرة» داخل أركان المتحف، التقينا صاحبه راشد علي النهم، ليحدثنا عن مقتنياته التي أخذ بتجميعها على مدى عقود، ويقول «يضم المتحف ما يزيد على ألفي قطعة تراثية، تم جمعها بعناية على مدى عقود، لتشكّل لوحة بانورامية شاملة لمختلف مكوّنات الحياة الإماراتية القديمة. وتتنوّع هذه المقتنيات بين ما يعبّر عن البيئة الزراعية، والبيئة البحرية، والبيئة الجبلية، إذ تتجسد في أدوات العمل اليومية، ووسائل العيش، وقطع الحياة التقليدية المستخدمة في كل بيئة. كما يحتوي المتحف على مجموعة كبيرة من الإلكترونيات القديمة، بمختلف أشكالها، توثّق بدايات التقنية في حياة الناس، إلى جانب الأسلحة التراثية القديمة بأنواعها، إضافة إلى أدوات الحياة المنزلية التقليدية الخاصة بالرجل والمرأة، مثل الملابس، والعطورات، والنحاسيات، والأواني الفخارية بأشكالها المختلفة، مثل القدور، والدلال الفخارية والنحاسية».
المتحف يوثق الماضي ليُعلّم الحاضر
وفي حديثه عن الدافع وراء إنشاء المتحف، يوضح راشد علي النهم أن تجربته تنبع من ارتباط عاطفي عميق بالماضي، مضيفاً «حبي للحياة القديمة هو الدافع وراء الاحتفاظ بهذه المقتنيات، التي تمثل بالنسبة لي ذكرى لأشخاص أحببناهم، كثير منهم رحلوا عن عالمنا، لكن بقي أثرهم في هذه القطع التي احتفظ بها. فالهدف من تأسيس المتحف لا يقتصر على جمع الأشياء القديمة، بل رسالة للحفاظ على التراث، وتعريف الأجيال الجديدة بماضي الآباء والأجداد، وبالأدوات التي استخدموها في حياتهم اليومية، سواء كانت أدوات منزلية، أو زراعية، أو من البيئة الجبلية، أو البحرية، تلك البيئات التي تعكس أسلوب حياة كان قائماً على البساطة، والاعتماد على الذات، فالمتحف يوثق الماضي ليُعلّم الحاضر».


ويواصل الشرح «من أبرز أقسام المتحف أيضاً، غرفة خاصة بالأسلحة التقليدية، تضم أدوات دفاعية وهجومية كانت مستخدمة في الماضي، مثل السيوف، والخناجر، والسهام، والأقواس، إلى جانب أدوات صناعة البارود والرصاص، ما يعكس البيئة الأمنية والمعيشية في فترات مختلفة من تاريخ المنطقة. أما غرفة الأواني الفخارية والنحاسية، فتعرض قطعاً يزيد عمرها على 200 عام. ولم يغفل المتحف الجانب التكنولوجي من التراث، إذ خصّص ركناً للإلكترونيات القديمة، يضم مجموعة نادرة من الكاميرات بأحجامها المختلفة، وأجهزة التسجيل مثل (البشتختة)، والهواتف القديمة. كما يحتوي المتحف على تشكيلة متنوّعة من العملات القديمة، التي تم تداولها في الإمارات على مر العقود، لتقدم نظرة شاملة على تطور الأنظمة الاقتصادية والنقدية في الدولة».


ويحظى المتحف باهتمام واسع من الزوّار من مختلف أنحاء العالم، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، سويسرا، أستراليا، روسيا، بلجيكا، إلى جانب مختلف الدول الأوروبية والآسيوية، ودول الخليج العربي، إذ تجاوز عدد الزائرين 3 آلاف زائر في عام واحد فقط، في مؤشر واضح على الجاذبية الثقافية التي يتمتع بها المتحف، والدور الذي يلعبه في ربط الناس بتراث الإمارات، سواء من داخل الدولة، أو خارجها.
* تصوير: السيد رمضان