د. نسرين عويضة: الإتيكيت في العمل ضرورة لصنع بيئة مهنية سعيدة ومنتجة

في زمن تتسارع فيه وتيرة العمل، وتتصاعد الضغوط المهنية، تبرز الحاجة الملحّة إلى بناء بيئات عمل سعيدة، ومستقرّة، لا تعتمد على الكفاءة فقط، بل على جودة العلاقات والسلوكات المهنية.
في هذا الحوار، تسلط الدكتورة نسرين عويضة، خبيرة السعادة وجودة الحياة، والحاصلة على دكتوراه في السعادة المؤسسية، وعضو في جمعية الإمارات للمدرّبين والمستشارين الإداريين، الضوء على مفاهيم الإتيكيت الوظيفي، وأثره في تحسين الأداء، ودور الإدارة الواعية في خلق بيئة عمل ملهمة، تدفع الموظف نحو التطوّر والرضا المهني:

ما الأسباب التي دفعتك إلى دراسة السعادة المؤسسية، وحصولك على الدكتوراه في هذا المجال؟
منذ بداياتي في مجال الموارد البشرية، أدركت أن الأداء المميّز لا ينبع من المهارات فقط، بل من جودة الحياة في بيئة العمل، وقد ألهمتني رؤية دولتنا الحبيبة جعل السعادة معياراً للسياسات العامة، وكنت محظوظة بلقاء عهود بنت خلفان الرومي، أول وزيرة سعادة، في أحد المؤتمرات، وكانت مصدر إلهام حقيقي بالنسبة لي، فقد دعمني فريق العمل في الوزارة خلال مسيرتي البحثية، وأطلعني على مبادرات نوعية طبّقتها الدولة ساعدتني على التعمق في مجال السعادة المؤسسية، إلى جانب تجربتي الشخصية في إدارة وتطوير المواهب في بيئة عملي، وتشجيع الزملاء، والصديقات.
ما هو إتيكيت العمل الوظيفي، ولماذا أصبح ضرورة؟
لم تعد الكفاءة وحدها كافية للتميّز، بل أصبح إتيكيت العمل جزءاً من الهوية المؤسسية، بل هو أسلوب راقٍ في التعامل، يعكس احترام الموظف لوقته، ولمهامه، ولزملائه، في إطار من اللباقة، والاحتراف، والتقدير المتبادل، وهو ما أكدته رؤية الإمارات لجودة الحياة، وأن العلاقات الإيجابية في بيئة العمل تُعد من أهم مقومات الرفاه النفسي، ما يجعل الالتزام بسلوكات الإتيكيت ليس مجرد ترف، بل ضرورة لتحقيق بيئة عمل سعيدة، مستقرة، ومنتجة، وكلها مظاهر تعكس الاحتراف والسلوك المهني الراقي، بل وتتصل بجوهر القيم الإسلامية. فالإحسان في التعامل وإتقان العمل من أعمدة السلوك المهني، وهو توجه يحث عليه ديننا الحنيف بأن نُقدّم أفضل ما لدينا، لا من قبيل الواجب فحسب، بل من باب التقرب إلى الله تعالى، والإحسان إلى من حولنا، فعندما يصل موظف إلى اجتماعه في الوقت المحدّد، ويصغي باحترام، ولا يقاطع أحداً، ويتعامل بلطف حتى عند الاختلاف، فهذا السلوك الظاهري البسيط هو في حقيقته مزيج من الإتيكيت، والاحتراف، والخُلق الراقي، الذي تصنع به بيئة مهنية، سعيدة ومنتجة.

كيف تسهم البرامج القيادية في سعادة الموظف؟
البرامج القيادية تعيد تشكيل رؤية قائد الفريق لنفسه، ولمن يعمل معه، بما يتماشى مع معايير Great Place to Work، فعندما يشعر الموظف بأن المؤسسة تستثمر في تطويره، تنمو ثقته بنفسه، ويزداد ولاؤه وارتباطه المهني، كما تسهم هذه البرامج في تحقيق التوازن النفسي والذهني، وبالتالي رفع الرضا العام للأداء.
ما الذي يميّز بيئات العمل في الإمارات؟
أنشأت الإمارات منظومة تشريعية متكاملة تدعم السعادة الوظيفية، فأوجدت مكاتب للسعادة في الجهات الحكومية، ومؤشرات أداء خاصة بها، إلى جانب تصميم بيئة عمل مرنة، ومحفزة، تشمل ساعات العمل المرنة، والعمل عن بُعد، وتصميم مكاتب تفاعلية، ومساحات للاسترخاء والتأمل، فضلاً عن الاهتمام بالصحة النفسية، والرفاه الاجتماعي، وتقديم برامج دعم نفسي، وأنشطة رياضية وثقافية، وغيرها، كل ذلك ساعد على تعزيز الشعور بالتمكين، والانتماء لدى الموظف، ما أسهم في تحقيق السعادة المهنية.

كيف يمكن لرواد الأعمال تطبيق مبادئ السعادة المؤسسية؟
من خلال خلق بيئة عمل قائمة على الثقة، الشفافية، التمكين، المرونة، والاستثمار في صحة الفريق، النفسية والاجتماعية، فبعض الدراسات الحديثة تؤكد أن الشركات التي تطبق أدوات السعادة المؤسسية كالتقدير، والتوازن النفسي، تسجل معدلات أعلى في الإنتاجية، وتقلل من نسب الاستقالة، كما ترتفع لديها مستويات الابتكار بشكل ملحوظ.
ما الخطوة الأولى في رحلة تحسين الذات؟
أن يفهم الإنسان من هو، وما الذي يريده، وما الذي يمنعه.. هذه الأسئلة هي جوهر جودة الحياة الفردية، وهي أساس تحول حقيقي ومستدام.
كيف نحول الفشل إلى فرصة للنمو؟
أن نُعيد تعريف الفشل كمحطة تعلّم، وليس نهاية الطريق، فبيئة العمل الداعمة يجب أن تسمح بالتجربة والخطأ، فعندما يُحتضن الموظف بعد تجربة غير ناجحة، ويُمنح فرصة ثانية، فإن ذلك لا ينمّي ثقته فقط، بل قد يُفضي إلى حلول مبتكرة، ونجاحات مستقبلية.
النجاح المستمر يبدأ من رغبتك في أن تكون نسخة أفضل من نفسك كل يوم
ما أهم مهارة للنجاح المستمر؟
رغبتك في أن تكون نسخة أفضل من نفسك كل يوم، ففي عالم يتغير بسرعة لا تكفي المهارات الثابتة، بل نحتاج إلى مرونة ذهنية، وقدرة دائمة على التكيف والتطور، وكلما كنا أكثر انفتاحاً على التعلّم، كنا أكثر قدرة على مواجهة التحديات وصناعة فرص جديدة لأنفسنا، فبلا شك، فإن التعلّم المستمر وتطوير الذات هما المفتاح الحقيقي للنجاح المستدام.

كيف يؤثر السلوك المهني في فرص الترقي؟
السلوك المهني لا يُعد عاملاً مساعداً فقط، بل هو عنصر حاسم في فرص الترقية والتطور الوظيفي، وقد يتفوّق في أهميته على الكفاءة الفنية، في كثير من الأحيان، فالموظف المهني:
- يبني سمعة قوية بفضل لباقة تعامله واتزانه في المواقف الصعبة.
- يكسب ثقة الإدارة التي ترى فيه نضجاً واستعداداً لتحمّل مهام قيادية.
- يعزز بيئة العمل الإيجابية من خلال التعاون وتخفيف التوترات داخل الفريق.
- يُظهر التزاماً وولاء واضحين عبر احترام المواعيد والزملاء والحفاظ على الصورة المهنية.
وكلها إشارات على أن الموظف جاهز لمسؤوليات أكبر، مثال واقعي: إذا كان هناك موظفان في نفس الفريق، وبنفس الكفاءة الفنية، لكن أحدهما يتحلى بسلوك مهني راقٍ، يُصغي، يتقبّل النقد بروح إيجابية، ويلتزم بالقيم المؤسسية؛ فإنه سيكون الأوفر حظاً في الترقية، لأنه لا يُنجز فقط، بل يُمثّل المؤسسة في صورتها المثلى. وخلاصة القول: المهارات تفتح لك الباب، لكن السلوك المهني هو ما يجعلك تستحق البقاء والارتقاء.

نصيحتك الذهبية لمن يسعى لتطوير ذاته؟
لا تنتظر التغيير من الخارج، بل ابدأ بنفسك، غيّر طريقة تفكيرك، رتب بيئتك، نظّم حياتك، فالسعادة ليست منحة خارجية، بل قرار ينبع من الداخل.
بعيدًا عن مجال التخصص، هل لك أن تطلعينا على اهتماماتك الأخرى التي تخصصين لها وقتاً في يومك؟
أحرص يومياً على تخصيص وقت للقراءة، بخاصة في مجالات علم النفس الإيجابي، والسعادة، وجودة الحياة، أما عن ممارسة الرياضة، فرغم أنها تحدٍّ بالنسبة لي، إلا أنني أحب المشي، بخاصة في فصل الشتاء بدبي، مع الاستماع إلى موسيقى هادئة تمنحني السلام الداخلي، وأحب الطبخ أيضاً، وغالباً ما أستمتع به في عطلة نهاية الأسبوع مع عائلتي، ولا أتنازل عن السفر مرة أو مرتين في السنة، لاكتشاف أماكن جديدة.
كيف أثرت نشأتك ومراحل طفولتك في اختيار مسارك العلمي والمهني؟
كانت والدتي، رحمها الله، تعمل في مجال التربية والتعليم، وكانت دائماً تشجعني على مواصلة دراستي، وتشعرني بأنني مميّزة، فقد علّمتني أن الحياة مسؤولية، ومعرفة، وقيادة، وهو ما انعكس على اختياري لمسار مهني يهتم بتطوير الإنسان وتمكينه.

حدثينا عن دور الأسرة، ومن أكثر من تأثرتِ بهم في مسيرتك العلمية والعملية؟
لا يمكنني أن أتحدث عن مسيرتي من دون أن أبدأ بوالديّ، رحمهما الله، فقد كانا النور الذي أنار دربي، وقدوتي في التوكل على الخالق، والاجتهاد، والصبر، والإصرار، وحسن الظن بالله تعالى، فقد كانت أمي تزرع بداخلي الأمل، ودعواتها حبل أمان يحيطني، ويمنحني راحة نفسية، ودعماً لا يوصف، أما والدي، فكان إيمانه بي يدفعني لأن أؤمن بنفسي وأسعى للتميز بثقة ورضا.
لمن تُهدين ما وصلتِ إليه من نجاح في حياتك؟
أُهدي نجاحي إلى أسرتي، ولكل من آمن بقدراتي ودعمني، ولكل تجربة صعبة مررت بها، لأنها شكّلت جزءاً من قوتي اليوم.
هل لكِ طموحات تتمنين تحقيقها في المستقبل القريب على المستويين الشخصي والمهني؟
أحلم بتأسيس مركز تدريب وكوتشينج متكامل يُعنى بالسعادة وجودة الحياة، مقره في الإمارات، وينطلق إلى الشرق الأوسط كله، ويكون كمنارة أمل وتفاؤل لكل فئات المجتمع: الموظفين، الأمهات، الأطفال، المراهقين، كبار السن، المتقاعدين، وحتى العاملات في المنازل. أما على الصعيد الشخصي، فأسأل الله الصحة والعافية، وأن أرى أحبتي (أبنائي، عائلتي، صديقاتي) في أحسن حال، وأن يغمرهم الفرح والطمأنينة دوماً. كما أطمح إلى أن أخصص وقتاً أكبر للعطاء المجتمعي، والمشاركة في الأعمال التطوعية، التي تُثري الروح، وتمنح الحياة معناها الأجمل.