01 يوليو 2025

إنعام كجه جي تكتب: رضيعة في عيادة الأسنان

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

مجلة كل الأسرة

تعرفت منذ عشرين سنة إلى طبيبة أسنان في الأردن تركت أثراً في قلبي قبل أن تترك بصمتها على ابتسامتي. ولمزيد من التوضيح، عليّ أن أشرح لكم أنني موصلية الانتماء، أي أن عائلتي من مدينة الموصل شمال العراق. وهي منطقة يشتهر أهلها بأمور كثيرة طيبة أو أقلّ طيبة. منها حبهم لـ«الجرزات»، أي للمكسّرات.

عفواً، لا يذهب بكم الظن بعيداً. فالمكسرات التي أعنيها هي الفستق، والجوز، واللوز، وأنواع حب البطيخ، ودوار الشمس. أما المكسرات باللهجة العراقية فهي تعني السيئ من التصرفات. وبما أنني نشأت وسط قوم يتسلون بقزقزة اللب والفستق في كل يوم ووقت ومناسبة، فقد تركت تلك التسلية البريئة آثارها، ولنقل آثامها على أسناني وأسنان قومي. ولم يكن الأمر يعنينا كثيراً لولا دخولنا عصراً جديداً صارت فيه المظاهر هي واجهة المخلوقات. لم يعد طبيب الأسنان هو من يعالج التسوس ويخلع الضرس المريض فحسب، بل صار من خبراء التقويم والتبييض والتجميل. يخلع ويزرع ويستخدم الكريستال والزيركون مثل أي صائغ محترف.

ومن محاسن الصدف أنني في واحدة من زياراتي للعاصمة الأردنية عمّان تعرفت إلى الدكتورة لينا القدومي. ولست أخشى تأويل هذا الكلام على أنه دعاية تجارية لها، لأنها لا تحتاج لأي دعاية، ومواعيد عيادتها محجوزة مسبقاً. أكتب عنها لأنني أحب كل من يتقن عمله. سواء أكان سمكرياً أو عالماً نووياً... أبعدنا الله عن محنة علماء الذرة في هذه الأيام.

سافرت إلى الأردن في وقت متأزم. الصواريخ والمسيرات تمر في أجواء البلد. لكنني كنت قد حجزت موعداً مع الدكتورة لينا، ولا أنوي تفويته أو تأجيله. لقد فعلت المكسرات أفعالها في أسناني. وحين دخلت عيادتها وجدت في غرفة الانتظار طفلة رضيعة جميلة تغفو في مهد. وفهمت أنها ابنة السيدة المهذبة التي تعمل مساعدة للطبيبة. أم شابة عاملة شاءت ظروفها أن تأتي برضيعتها زويا معها إلى مكان عملها. وهكذا صارت ابتسامة الطفلة من عوامل التخفيف عن زبائن العيادة، بل أنها فراشة التفاؤل في هذه الشقة البيضاء الناصعة.

يذهب الناس إلى طبيب الأسنان وكأنهم ذاهبون إلى المقصلة. يخافون ألم الحقنة المخدرة، وصوت المثقاب، وجهاز الحفر والتقوير. لكنني أذهب إلى طبيبتي وكأنني ذاهبة إلى حفل موسيقي. وجهها جميل ومريح. تراها سعيدة بما تقوم به. وأكرر أنني أحب من يحب عمله ويتفانى فيه. تجلس بالساعات محنية الظهر تنحت الأسنان مثل فنان تشكيلي. ثم تستيقظ زويا ويحين موعد رضعتها. نأخذ استراحة ونتأمل في المرآة نتيجة الفن الجميل.

كنت أتمدد على سرير العيادة وكانت صافرات الإنذار تدوي في فضاء المدينة. تذكرت حرب السنوات الثمانية في بلدي، وما تلاها من حروب ونزاعات. تمنيت السلام لكل الناس حيثما كانوا. وأن يغفو أطفال غزة بأمان مثلما تغفو زويا.