بلغت درجة الحرارة في باريس، قبل أيام، 36 درجة مئوية. خرج الناس من جلودهم، ورفعوا سراويلهم، وخاضوا بسيقانهم في برك الحدائق العامة، والنافورات، والبحيرات الاصطناعية، وحيثما تيسّرت قطرة ماء تغسل اللهيب. ليست هي المرة الأولى التي أتفرج فيها، مستغربة، على هذا النزوع نحو الطبيعة. إنها بمثابة الأم التي يلجؤون إليها من عسف تقلبات الجو.
يقول لي جاري الفرنسي إن هذا الطقس يشبه طقس بلادي. يسألني: «لا شك أنك سعيدة بالحرارة التي تذكّرك بجو بغداد في الصيف...». أبتسم له وأجيب بأن هذا الطقس يشابه الربيع عندنا. أما الصيف فلا أجد كلمات لوصفه لك.
هل أقول له إن أصعب لحظة كانت عند الخروج من الدوام، في الثانية ظهراً، والدخول إلى السيارة؟ كانت الموضة في تلك السنوات هي التنورات القصيرة. تجلس على المقعد فيتحول لحمك إلى شيش كباب. تمسك بالمقود فيلتهب باطن كفك وتصاب بحروق من الدرجة الثالثة. تفتح النافذة فتهبّ عليك ريح جهنم الحمراء. لم تكن الظروف تسمح بركوب سيارة مكيفة، وكان التكييف للمديرين، والوزراء، وعلية القوم.
في واحدة من سفراتي إلى دبي دعاني قريب لي إلى الغداء في بيته ومع أسرته. كان يعمل طبيباً ويشتغل في عيادته قبل الظهر وبعده. تغدينا وحان موعد المغادرة لكي يعيدني إلى فندقي. كنا في أيلول/ سبتمبر والدنيا في الخارج نار. توقعت أنني سأتحول أيضاً إلى شيش كباب. لكنني فوجئت بأن السيارة مبردة. قال لي إنه يستطيع تشغيل التكييف عن بعد، قبل خروجه من البيت. عظَمة على عظَمة!
حين تتجاوز درجات الحرارة الثلاثين في فرنسا فإن هذا الخبر يتصدر كل النشرات. لا يلتفتون إلى قصف إسرائيل لإيران، ولا إلى تقارب ترامب مع الصين، ولا إلى الطائرة الهندية التي سقطت بعد إقلاعها. كل أحداث العالم تتراجع بعد حديث الطقس. يضرب الخبراء أخماساً في أسداس لكي يتنبّؤوا بانفراج الطارئ المناخي، ولكي يبشّروا الشعب بأن مؤشر الحرارة إلى انخفاض. والغريب أن الناس هنا يصدقون ما تقوله المذيعة قارئة النشرة الجوية. أما في بلادنا فإذا قالت المذيعة إن درجة الحرارة 45 صاح المشاهدون: يعني 55. هناك اعتقاد دائم بأنهم يكذبون علينا، وأنهم يخففون من وقع صيفنا اللهاب. كل الثورات والانقلابات الكبرى جرت في الصيف.
أتفرج على جاري وقد ارتدى ثياب المعركة؛ أي الشورت القصير، والقبعة القش، ونظارات الشمس، وقنينة الماء في اليد، والمظلة، نسميها في بلادنا شمسية، وهي تسمية أصحّ. وفي كل الأحوال لا شمسية تنفع في ترطيب الحال.