ينتمي الفيلم الجديد لأندرسن إلى مجموعة أفلامه السابقة، لا من حيث الحكاية التي تضم مواقف مختلفة لشخصيات متعدّدة، بل من حيث ذلك الأسلوب الخاص الذي يميّز كل ما يقوم بتحقيقه. أسلوب يعتمد الشكل الهندسي، ويعمد إلى حلول فنية خاصة به، تميّز أفلامه عن أيّ مخرج آخر، من أيّ مكان.
أندرسن لم يدرس الهندسة المعمارية، أو علم الهندسة، «جيومتري»، مطلقاً، كذلك لم يمارس فن الرسم، من قريب أو بعيد (كما فعل لينش على سبيل المثال). ذلك لم يمنعه منذ أن بدأ الإخراج سنة 1998 من تشكيل أفلامه على نحو هندسي، ومنح الصورة ألواناً أساسية تعبّر عن المكان، والمعنى الذي يجسده. ألوانه فاقعة حين يرغب في ذلك، وخافتة في الحالات الأخرى. حتى عندما تكون خافتة أو باهتة، تبقى مميّزة بدرجة كبيرة من دفع اللون إلى الصدارة. لذلك، فإن مشاهدة أفلامه هي تجربة في التصاميم الشكلية، وألوانها تحيط بالحكاية، وإلمام بالتفاصيل العديدة التي جوهرها المخرج في أيّ مشهد، في أيّ فيلم له.
في The Phoenician Scheme «الخطّة الفينيقية» مثال جاهز: مشهد يتألف من غرفة واسعة، ذات سقف وجدران من الخشب بنيّة اللون، فيها ثلاث شخصيات. إلى اليمين رجل بسترة بنيّة يحمل حقيبة حمراء، تحتها جهاز. وراءه بأمتار قليلة، فتاة بلباس راهبة. وإلى يسار الصورة، وعلى بعد مماثل، يقف رجل بيد مربوطة لعنقه (إثر حادثة)، يرتدي سترة بيج. الغرفة ذاتها مرتّبة، تحتوي على مكتب في منتصفها أمام النافذة، وعلى الأرض انعكاسات لنور الشمس.
توزيع الشخصيات ينتمي إلى ذلك القرار الذي في بال المخرج، وتفاصيل اللقطة كلها محسوبة بقياس محدود من حيث المساحة، والمسافات، وأين يرتسم انعكاس الشمس على الأرض.
الفيلم بأسره مصمم على هذا النحو، كما لو أن المخرج رسم كل مشهد على حدة، قبل تصويره. وهذه ليست المرّة الأولى.
يمكن ملاحظة شغل أندرسن المماثل في كل أفلامه.. إنه «ديكوريست» ومخرج، معاً. في «عائلة تَننبوم الملكية» (2001) يلعب المنزل الذي يحتوي على شخصيات هذه العائلة الدور الأول في تعريف تلك العائلة. يفسّرها من حيث محتويات غرفه، وتكوين ألوانه. أمضى المخرج ستة أشهر في تصميم ديكوراته، واختيار ألوانه، وستة أسابيع فقط، لتصوير الفيلم.
هناك لقطة من فيلم The Darjeeling Limited، سنة 2007، تحتوي على ثلاثة ممثلين جالسين فوق كنبة عريضة في غرفة ضيّقة ذات جدران برتقالية داكنة، وحمراء باهتة. طريقة الجلوس وموضع يدي كل منهم أمامه، تبدو متجانسة، لأن الغاية هي توفير صورة ثلاثية الأبعاد لشخص واحد. هم ثلاثة إخوة ركبوا القطار في مهمّة روحانية. وعوض أن يتناول الشخصيات على نحو منفرد، يعرض ما قد تكون عليه من اختلافات أو تماثل، يوجز كل شيء في تلك اللقطة، فإذا بهم أقرب إلى حالة واحدة متعدّدة الشخصيات. هذا التماثل يطرح مجدداً الرغبة في استخدام التصميم العام كبديل للدراسة النفسية، أو حتى الاجتماعية.
أحد أفضل أفلام أندرسن هو «غراند بودابست هوتيل» (2014). الفندق من الخارج هو معمار كلاسيكي زهري اللون. المشاهد الداخلية هي حمراء قانية أساساً. بهو الفندق يتألف من سجادة عريضة في الوسط، وسجادتين على جانبيها، وسلم مغطى بدوره بالسجاد، وفي أعلاه مكتب الاستقبال تحت نوافذ بيضاء. المصابيح موزّعة بالتساوي في كل مكان.
الغاية هنا هو توفير نظرة محدّدة لفندق كلاسيكي في زمن كلاسيكي (الثلاثينيات)، في مدينة أوروبية تتنفس أريج تلك الفترة الفاصلة بين حربين عالميتين. لم يعد هناك داعٍ، والحال هذا، لمشاهد توفر تصويراً للمدينة، أو للمكان عموماً. مرّة أخرى، تتكفّل الصورة بتوفير المعلومات المطلوبة. حين تنتقل الأحداث من تلك الفترة الزمنية إلى أخرى (الستينيات)، يتغيّر الاعتماد على اللون الأحمر القاني، وتبعاته البرتقالية والوردية. هذا يتماشى مع الرغبة في تصوير انتقال زمني من عصر الفخامة الأرستقراطية في العقود السابقة، إلى بقايا تلك الفخامة بعدما بهتت الألوان.
أمّ أندرسن هذا التشكيل الخاص به في فيلم «ذَ فرنش ديسباتش» الذي عرضه مهرجان «كان» سنة 2021. يختار لون المبنى التقليدي القديم من الخارج، من دون تمييز يُذكر. لكن المشاهد الداخلية هي التي تتنوّع، لا تنتقل من ألوان فاتحة إلى أخرى هادئة، وخافتة، بل يتناوب عليها التصوير بالألوان، والأبيض والأسود.
كل ما يقوم به أندرسن من جهد في سبيل أن يلعب اللون والتصاميم والتفاصيل، هو أسلوب خاص به، يقوم على توفير التشكيل الصالح لأن يلعب دور البطولة إلى جانب الشخصيات. ينتمي إلى فن الرسم، وفن الهندسة، وفن المسرح، في آن معاً، من دون أن ينفي أحدنا انتماء هذا المزيج إلى السينما أساساً. ما يوفره هو أسلوب مغاير ومنفرد ينتمي إليه وحده. هو نفسه يقول «قررت أن هذا الأسلوب هو مثل خط يدي لا أستطيع تغييره».