25 مايو 2025

المحامية عذراء حمود تروي تفاصيل انتحار ابنتها: ابنتي كانت مصابة بالاكتئاب المبتسم

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

قرّرت أن تحوّل فاجعتها إلى رسالة حياة لتكون صوتاً لكل أمّ لم تجد فرصة لفهم الألم الخفي في قلب ابنها، أو ابنتها. تلك الأم المكلومة التي انتحرت ابنتها ذات السبعة عشر عاماً، تمنحنا الوقت الكافي لتسرد تفاصيل مأساتها، وترفع راية التوعية بـ«الاكتئاب المبتسم»، وهو الاضطراب الذي قاد ابنتها إلى الانتحار.

ففي لحظة، انقلب عالم المحامية والباحثة عذراء حمود، رأساً على عقب، وهي تتلقى اتصالاً يخبرها أن ابنتها نقلت من المدرسة إلى المركز الصحي، قبل أن تُفجع بخبر انتحارها، في الثامن عشر من سبتمبر، عام 2024. تنقّب في تفاصيل ما قبل الحادث، وتروي كيف كانت ابنتها شهد تبتسم، تقول: «قبّلتها مثل كل يوم، وقبّلتني، وابتسمت لي كعادتها، وانتظرتها حتى عبرت بوابة المدرسة. ذلك اليوم، انتابني شعور غريب بالضيق الشديد، من دون سبب، وكنت أشعر بأنّ وجهها مثير جداً للشفقة، رغم أنها تبتسم».

«كل الأسرة» تواصلت مع الأم، وكان معها حوار مطوّل، سردت فيه تفاصيل اللحظات الأخيرة، وما شاب القضية من ملابسات نفسية تتعلق بإصابة شهد بـ«الاكتئاب المبتسم»، ومن أسئلة ما زالت تلك الأم تبحث عن إجابات عنها، في خضمّ معاناتها:

هذه شهادة أم قرّرت أن تكون صوتاً لأمّهات لا يدركن أن أطفالهن يعانون بصمت، لتسلّط الضوء على أهمية العناية بالصحة النفسية لأبنائنا، وعلى أهمية معالجة الثغرات في البيئة المدرسية.

من أين تبدأ القصة؟ وهل سبق ولاحظت تغيّراً في سلوك ابنتك قبل الحادث؟

في الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2024، وتحديداً في الساعة الثانية بعد الظهر، تلقيت اتصالاً هاتفياً من والد ابنتي (طليقها)، بأنّه تمّ نقل ابنتي من المدرسة إلى المركز الصحي الملاصق لمبنى المدرسة، وأبلغني أنها أقدمت على إنهاء حياتها، علماً بأن إدارة المدرسة لم تهاتفني قبل نقلها إلى المركز الصحي ولا بعد ذلك، على الرغم من أن المدرسة تبعد عن مكان سكني قرابة 10 دقائق فقط، بينما تبعد عن مكان سكن الأب قرابة الساعتين ونصف الساعة، كما أنّ رقم هاتفي مسجل لديهم، ما أثار لدّي الشك في أن هناك خطأ ما، وربما لا تكون ابنتي، إنما هو مجرّد تشابه في الأسماء.

اتجهت إلى المركز الصحي، ودخلت بالقوة إلى الغرفة التي توجد فيها ابنتي. كانت الغرفة خالية من الأجهزة، ومملوءة بالموظفات اللاتي يعملن في المركز الصحي والمدرسة، وكان هناك عدد من أفراد الشرطة، طلبت منهم التأكد فقط من أن الموجودة في السرير ابنتي، أم لا، حاولوا منعي، ومن ثم سمحوا لي بعد تغطية وجهها بأيديهم، تعرفت إليها من خلال جسدها. قالت لي إحدى الموظفات: «ابنتكِ بخير لا تقلقي، قلبها مازال ينبض، ونحن نحاول مساعدتها».

جلست قرابة النصف ساعة في غرفة الانتظار، وأنا على أمل أن ابنتي بخير، وخلال انتظاري كانت الموظفات يتردّدن عليّ يطرحن أسئلة من قبيل: «هل أبلغت أهلكِ؟»، «هل لديكِ صديقة يمكنها مرافقتك؟» كنت أجيبهن بأنني لن أتصل بأحد إلا بعد رؤية ابنتي، والاطمئنان عليها. بعد ذلك جاءت ممرضة وأبلغتني: «حاولنا مساعدة ابنتك؛ لكن الله أختارها». أصبت بصدمة قاتلة، وانفعال شديد، وبدأت أصرخ: «لماذا قلتم إن قلبها ينبض؟»، لماذا كذبتم عليّ وقلتم إنها بخير؟». دخلت لمعاينة جثتها، ووجدت آثار ضرب شديد في عظمة الأنف، تسببت بجروح غائرة، وكان أنفها ينزف بشدة، وهناك رغوة كثيفة تخرج من الأنف، وحز خفيف على العنق من دون لون، وسائل أسود يخرج من بؤبؤ العينين، ما يعني أن حدقة العين أصابها انفجار، وأن طفلتي ماتت منذ وقت طويل. فصرخت بهم: من قتلها؟ وطالبت بالتشريح، وأظهر التشريح أنها ماتت منتحرة بسبب الاختناق، أما كاميرات المدرسة فكانت مُعطّلة، مع علم إدارة المدرسة بذلك.

مجلة كل الأسرة

وهل تقصّيت مسار ابنتك قبل إقدامها على الانتحار؟

لاحقاً، عرفت أن ابنتي اختفت من الحصة الرابعة، ولم يبحث عنها أحد، على الرغم من وجود حقيبتها في الصف. في الحصة الأخيرة بحثت عنها إحدى زميلاتها، ووجدتها في دورة المياه، يظهر ثوبها من أسفل الباب بينما الباب مغلق، قام عامل النظافة بالقفز إلى دورة المياه وفتح الباب (دورات مياه المدارس مفتوحة من الأعلى يمكن الدخول إليها بالقفز من دورة مياه إلى الأخرى).

أما عن الوسيلة المستخدمة للخنق، فلا يمكنني ذكرها لأن منظمة الصحة العالمية توصي بعدم ذكر الوسيلة، تجنباً لظاهرة فيرتر، وتأثير فيرتر (Werther Effect)، وهي ظاهرة نفسية واجتماعية تشير إلى زيادة حالات الانتحار، بعد نشر وسائل الإعلام تقارير تفصيلية عن حالات انتحار سابقة، بخاصة إذا كانت هذه التقارير تركز على الطريقة المستخدمة.. ويُسمى التأثير بهذا الاسم نسبة إلى رواية «آلام الشاب فيرتر» (1774)، للكاتب الألماني يوهان فولفغانغ غوته، والتي يُقال إنها تسببت بموجة من الانتحارات بين الشباب الذين تأثروا بالبطل «فيرتر» الذي انتحر في نهاية القصة. وهناك دراسة أجراها عالم الاجتماع ديفيد فيليبس عام 1974، أظهرت أن نشر أخبار عن حالات انتحار في وسائل الإعلام يمكن أن يؤدي إلى زيادة في حالات الانتحار المقلّدة في المنطقة نفسها. وأنا خرجت من أجل نشر الوعي، وتقليل الحالات، وليس زيادتها.

مجلة كل الأسرة

اللحظات الأخيرة قبل إيصال ابنتك إلى المدرسة، كيف تصفينها، وهل ثمة شيء لفت انتباهك في تصرفاتها الأخيرة؟

كانت طبيعية، ونشيطة، وتبتسم كعادتها. في ذلك اليوم، كانت تتحدث معي في طريقنا إلى المدرسة عن الأنشطة بعد عودتها إلى البيت، وطلبت مني أن اشتري لها فوطاً صحية، لأنها أخذت المتبقي في المنزل لاستخدامه خلال يومها الدراسي، قبّلتها مثل كل يوم، وقبّلتني، وابتسمت لي كعادتها، وانتظرتها حتى عبرت بوابة المدرسة. ثمة شعور غريب انتابني ذلك اليوم، كنت أشعر بضيق شديد من دون سبب وكنت أشعر بأن وجهها مثير جداً للشفقة، بالرغم أنها تبتسم.

هل كانت ابنتك تعبّر عن مشاعرها؟ هل كانت تبوح بما في داخلها أم تفضل الكتمان؟

في طفولتها المُبكرة، كانت شديدة الكتمان؛ بسبب نشأتها في بيت الأب على الكتمان. عندما استعدت حضانتها، كان أكبر حاجز هو أنها ترفض التعبير عن مشاعرها، وكانت تردّد أن الأب يطلب منها عدم البوح بأسرار المنزل، وحتى في الاختيارات عندما أطلب منها أن تختار، أو أسألها عن لونها المفضل، كانت تجيب: «أيّ شيء»، «لا أعرف». استغرق مني الأمر وقتاً طويلاً حتى استطعت تدريبها على الاختيار والبوح، ونجحت في جعلها تستطيع الاختيار، ويبدو أنني لم أنجح في جعلها تبوح بكل مشاعرها الدفينة. وعلى الرغم من أنني استخدمت كل الطرق التي تجيدها، ومنها الرسم والعزف، كنت أقتني لها الألوان واللوحات، وما زلت احتفظ بلوحاتها، كانت ألوان رسوماتها سوداوية، بينما عزفها كان مبهجاً، و كانت تجيد عزف سمفونية الفرح لبيتهوفن، وتهوى عزف هذه السيمفونية دوماً، من سن الثانية عشرة، حتى السابعة عشرة، من دون كلل، وكانت تقرأ الكثير من قصص الأطفال، وتدّعي أنها لا تجيد التعبير بالكتابة.

تقولين إنها كانت تضحك بقوّة هل شعرت يوما بأنها كانت تخفي خلفها شيئاً مؤلماً؟

عادة كانت تكرر الضحك على الموقف نفسه، أو الطرفة، أو المشهد، وتقوم بإعادته وتضحك بشدّة، كأنها تستمع أو تشاهد الشيء في كل مرة لأول مرة. وفي ليلة الحادثة كنت تضحك بشدّة أثناء حديثنا عن موقف مضحك، لدرجة شعرت بالخوف عليها، وقلت لها: «يكفي الضحك». في الحقيقة لم أكن أتخيل أن خلف هذا الضحك حزناً، كانت أظنه تعبيراً عن الفرح.

شعرت بالذنب في أنني ما زلت على قيد الحياة، وسأجعل من وجع فقد ابنتي رسالة توعية بالصحة النفسية لأبنائنا

اعذريني على السؤال: هل شعرت بأن الطلاق بينك وبين والدها كان يرخي بثقله على نفسيتها؟

في الحقيقة، لم أشعر بذلك إلا في سنواتها الأولى، عندما كانت تسكن بيت أبيها. بعد انتقالها للعيش معي بدت سعيدة، لكن عرفت من خلال مذكراتها، وبعد وفاتها، أنّ عدم وجود الأب في حياتها، وعدم تواصله يسببان لها ألماً نفسياً شديداً، وعبرّت عن معاناتها خلال زيارتها له بأنّه جاف معها جداً، وأنّه السبب في ما تشعر به من ألم، ونقص.

ما أول فكرة خطرت في بالك عند معرفتك بانتحارها؟

تلقيت الخبر بصدمة شديدة، أول فكرة خطرت في بالي أن ابنتي مقتولة، وأنني لن أتنازل عن محاسبة إدارة المدرسة على الإهمال، والوصول إلى القاتل.

هل شعرتِ بالذنب أو اللوم تجاه نفسك؟ وكيف تتعاملين مع هذه المشاعر؟

نعم. شعرت بالذنب في أنني ما زلت على قيد الحياة بعد موتها، بينما هي كانت تردّد عليّ عندما كنت أصاب بوعكة صحية: «لو متّ، مستحيل أعيش بعدك.. بموت». في البداية كنت لا أجيد التعامل مع هذه المشاعر بسبب الصدمة الشديدة، ومع الوقت أصبحت قادرة على التعامل معها من خلال مخاطبة نفسي بأن هذا ابتلاء عظيم، الله سبحانه وتعالى ابتلاني حتى يحملّني رسالة يمكنني أن أنقذ من خلالها الكثير من الأرواح.

مجلة كل الأسرة

في رأيك، ما الذي كانت ابنتك بحاجة إليه ولم تجده؟ وهل تركت أيّ رسالة؟

كانت بحاجة إلى القبول في بيئتها المدرسية. فقد تعرضت لتنمّر شديد في العام الدراسي السابق، لأنه تم تحييدها عن رئاسة الصف بجرم أنها بلّغت عن الطالبات اللاتي قمن بإحضار الهواتف ،وتصوير وجهها، ووجوه الطالبات، ودخلت في شجار مع الطالبات اللاتي قمن بالتهجم عليها لتقرّر إدارة المدرسة، بعد ذلك، أنّها لا تصلح لرئاسة الصف. ومن هذا التوقيت، بدأت ابنتي بكتابة المذكرات، وهي مؤرخة بالتاريخ نفسه الذي تعرضّت فيه للتنمّر، علماً بأنني حاولت نقلها من المدرسة لكنها رفضت، وعللّت ذلك بوجود صديقات لها منذ المرحلة الابتدائية معها ،ولا تقوى على تركهنّ.

وفي مذكراتها، تلمسّت حاجتها إلى تواصل الأب، وهذا ما عبّرت عنه بإيرادها أن عدم تواصله معها يسبب لها أزمة، وتشعر بأنّه يكرهها، رغم أنها تحبه، كما أنها ذكرت تعرّضها للعنف في بيته في مرحلة الطفولة، وأوردت ذكريات تؤذيها، ولن تستطيع الصفح عنها.

هل تلقيتِ دعما نفسياً أو اجتماعياً بعد الحادث؟ وكيف كان وقع موقف المجتمع من حولك؟

نعم وجدت الدعم من الأهل والأصدقاء، جميعهم كانوا متعاطفين معي لأنهم يعلمون مدى تعلقي بابنتي. لكن المجتمع خارج دائرة العائلة والأصدقاء نشروا العديد من الإشاعات والكلام الجارح عنها.

ولكن بعد اللقاء مع إذاعة «هلا إف إم» المحلية، اختلفت ردود فعل المجتمع، وأصبحت معظمها ايجابية. وكذلك نشرت الكاتبة وفاء البوسيعيدي مقالاً تضامنياً على «الإنستغرام»، وكذلك كتبت الروائية العُمانية هدى حمد مقالاً تضامنياً في جريدة عُمان، ووصلتني الكثير من رسائل الدعم المعنوي على «الإنستغرام» من مختلف البلدان.

مجلة كل الأسرة

ما الأسئلة التي بقيت بلا أجوبة بعد فقدان ابنتك؟ وهل ستتوقفين عند تقرير الأخصائي النفسي والاجتماعي أم ستكملين المسيرة؟

أنا لم أتوقف في الحقيقة عند تقرير الأخصائي النفسي، فهو قام بتشخيص الحالة على أنها اكتئاب حاد ظاهر الأعراض، من خلال مذكراتها، لكن علمياً، لا يمكن الخروج بتشخيص دقيق من خلال المذكرات وحدها، المذكرات يمكن أن تكون مصدراً للمعلومات عن الشخص، ولكن لا يمكن إجراء التشخيص إلا من خلال اختبارات نفسية إذا كان على قيد الحياة. أما إذا كان مفارقاً للحياة، فلابد من مقابلة أفراد أسرته، ومعرفة التاريخ الوراثي للعائلة، وهذا ما لم يحدث. بحثت، وقرأت، وتوصلت إلى أن الاحتمال الأصوب هو إصابتها بما يسمى «الاكتئاب المبتسم»، وهو نوع من الاضطراب العقلي أعراضه غير ظاهرة، ويعدّ أخطر أنواع الاكتئاب، لأن الشخص يخفي اكتئابه خلف ابتسامة، وهذا النوع من الاكتئاب يتسبب بالانتحار بنسبة أكبر من الاكتئاب الظاهر، لأن المصاب لا يعطي أي مؤشرات، وتكون له قدرة ودافع أكبر للتنفيذ، لأنه لا يجد دعماً بسبب عدم تصريحه بمعاناته.

يبدو أنني لم أنجح في جعل ابنتي  تبوح بكل مشاعرها الدفينة، رغم أنني استخدمت كل الطرق التي تجيدها ومنها الرسم والعزف

لو عاد بك الزمن، ما الذي كنت ستفعلينه بشكل مختلف؟

كنت لا أكتفي بالاطمئنان عليها من خلال مظهرها وحديثها.

هل تشعرين بأن ما حدث قادك إلى أن تكوني صوتاً لكل أم لم تجد فرصة لفهم الألم الخفي في قلب ابنها، أو ابنتها؟

نعم، شعرت بمسؤولية كبيرة لنشر الوعي لأكبر شريحة، وعندما وصلتني ردود الفعل الإيجابية والمشجعة شعرت بمسؤولية أكبر، وأنّه يجب ألا أتوقف عند هذا الحد، بل عليّ أن أستمر.

ما الرسالة التي تودّين إيصالها اليوم لكل أمّ وأب يعتقدان أن أولادهما بخير وبكونهم سعداء؟

شجعوا أبناءكم على التعبير لكم عن مشاعرهم، بالكتابة أو بالرسم. فمن الصعب أن تكتشف دواخل المراهق من خلال الحديث، أو مظهره الخارجي. كذلك من المهم الاهتمام بتغذية الأطفال، لكون نقص المعادن والفيتامينات يمكنه أن يتسبب بخلل كيميائي في الدماغ.