18 مايو 2025

د. باسمة يونس تكتب: أكثر من مجرّد ترفيه

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

مجلة كل الأسرة

تُعرف الدراما الناجحة بأنها التي تحوّل المُشاهد إلى شاهد لا يستطيع المغادرة. وفي عصر تزاحم الشاشات لا يمكن قياس النجاح بعدد الحلقات، أو الأبطال، أو الميزانية، بل بقدرتها على إقناع المتفرج، واختراق مشاعره، لأنها ليست مجرّد تسلية عابرة.

وليست كل دراما تصنّف بأنها ناجحة، وإن حظيت بنسبة مشاهدة مرتفعة، لأن النجاح الحقيقي يكمن في خلق التزام وجداني من الجمهور تجاه ما يُعرض على الشاشة، فلا يشعر بأنه مجرّد مشاهد، بل شاهد على قصة تمسّه، أو على الأقل، تُثير فيه فضولاً صادقاً.

والدراما الناجحة هي التي تحقق على الأقل انجذاباً، جماهيرياً واضحاً، بفكرتها الإنسانية البسيطة والعميقة، والتي تلامس واقع الجمهور، وتقدم له تجربة صادقة، وصراعاً محكماً، فليست العبرة في ضخامة الحدث بقدر ما هي في عمق الأثر.

وهي التي تصنع شخصيات لا تُنسى، شخصيات قد نحبها، أو نكرهها، لكننا لا نستطيع تجاهلها، لأنها تعيش في ذاكرة الجمهور، ولأن أصحابها كانوا بشراً، أكثر من كونهم أدواراً.

وليس الهدف أن يتحدث الناس كثيراً، بل أن يقولوا القليل المشبّع بالتوتر، والدهشة، والصدق، ويعني الكثير، حوارات تعرف متى تصمت، ومتى تنفجر، متى تهمس ومتى تصرخ. لا تبالغ، ولا تسرف في الصمت، لأنها تعرف أن الجمهور يحتاج إلى التنفس، لكنه لا يحب الملل.

وقد تفيد الميزانية الكبيرة في الدراما، لكنها لا تصنع النجاح وحدها، فكم من عمل ضخم فشل، وكم من دراما بسيطة غزت القلوب، لأن الإنتاج وُظّف في خدمة الحكاية، لا في تزيينها فقط.

ويُعد تحقيق النجاح اليوم أشدّ صعوبة، بعد أن أصبح المشاهد كائناً قلِقاً، لا يمكث طويلًا إلّا إذا أسَره العمل حقاً، وهو يتخذ قراره في الدقائق الأولى، وأحياناً في الثواني الأولى، إن كان سيبقى أم لا. لذا، يجب أن تبدأ الحكاية بجملة، أو بلقطة، أو بلحظة تشدّ الانتباه من دون استعراض، وتحمل في داخلها وعداً بقصة تستحق المتابعة، والوقت الذي سيصرفه عليها .

إن الجمهور يحبّ ما يشبهه، لكنه يهرب ممّا يُغرقه في واقعه المؤلم من دون أمل، والمطلوب هو «واقعية فنية» تُشبه الحياة، لكنها تقدّمها بحسّ درامي يجعل من المألوف شيئاً مُدهشاً، مثل قضايا الهوية، والعدالة، والتمثيل الحقيقي للفئات المختلفة، فالأعمال التي تتجاهل ذلك قد تبدو قديمة، أو مفصولة عن العصر.

وقد لا يحب المشاهد الإطالة، لكنه لا يقبل التبسيط المُخلّ، وهو يتوقع أن تقدَّم الأفكار بشكل مكثّف، ولكن بعمق يحترم عقله، ورسائل قويّة بإمكانها أن تؤثر فيه، وأن تبقى في عقله .

إن الدراما الناجحة ليست أداة تسلية، ولا وسيلة استهلاك فقط، بل قوة ناعمة تُشكّل الوعي، وتُعيد طرح الأسئلة، وتُعزّز الهويّة، وتفتح نوافذ على عوالم لا نعرفها، وقد استطاعت مسلسلات كثيرة أن تؤثّر في وجدان المجتمعات، وأن تسكن الذاكرة، وتخلق حوارات عميقة تتجاوز الشاشة، لأنها تبدأ بسؤال صادق: ماذا نريد أن نقول؟ ولمن؟

وحين يكون الجواب حيّاً، متصلاً بالناس، نابعاً من عمق التجربة، فإن المتفرج لن يكون مجرّد متلقٍّ، بل سيصبح أسيراً أمام الشاشة، منجذباً لا بفعل الإبهار، بل بفعل الحقيقة.