
دائماً يبحث النصّاب عن الشخص الطمّاع حتى تكتمل فكرته، والطمّاع يذهب إلى الشخص النصّاب طواعية، من دون ضغوط، أو إجبار. المتهمون في القضية يتزعمهم مهندس برمجيات، كان شديد الذكاء، استغل ذكاءه وعلمه للإيقاع بالضحايا، بشكل غريب، ثم تكرّرت عملياته المختلفة، وتعدّد ضحاياه، كان شغله الشاغل هو كيفية البحث عن الطرق الجديدة لتنفيذ عمليات النصب المختلفة، ويرى أن ضحاياه يستحقون هذا المصير بسبب الطمع، والجشع، فبلغ نجاحه في النصب عنان السماء، كان يظن أنه سيظل بعيداً عن عيون العدالة بعدما حقق ثروة تخطت المليار جنيه، كما سنوضح لاحقاً.
مجرم مع مرتبة الشرف
لم يكن بطل القصة (المتهم)، من عتاة الإجرام، أو من أرباب السوابق، لكنه كان يستغل مهاراته وعلمه بشكل خاطئ. فمنذ نعومة أظفاره والمال وتجميع الثروة هو شغله الشاغل، ورغم نشأته في كنف أسرة متوسطة الحال إلا أنه كان دائماً لدية رغبة، وحاجة ملحّة إلى تكوين ثروة كبيرة. كان يعمل في التجارة أثناء فترة الدراسة ليجمع المال، لم يشغله كثيراً الحرام، والحلال، والنصب على البسطاء، كان لديه منطق غريب وعجيب، وهو أن الطمّاع يستحق مصيره المحتوم. كان المتهم يلقّب أثناء فترة دراسته بـ(الهاكر العالمي)، والبعض كان يطلق عليه لقب «أينشتاين الجامعة»، ولهذه الدرجة من المهارة الفائقة كان الجميع يثق بخبراته.
متمرّد على حياته
تنبأ له الجميع بمستقبل كبير، خصوصاً مع تميّزه، ورجاحة عقله في هذا الجانب، كان مخادعاً غريباً، ذكياً وطموحاً، يحمل وجهاً بشوشاً، حسن المظهر، لكنّ كثيراً من الأحلام ربما تنهار في غمضة عين، لسبب أو لآخر. فور التخرج في الجامعة التحق المتهم بالعمل في إحدى شركات المال، وداخل الشركة تعلّم الكثير من الأسرار والخبايا التي تحيط بهذا العالم، صفقات بلا حساب، وأموال كثيرة تجري كالأنهار، لكن في نهاية الشهر لا يتبقى له سوى الفتات، إلا أنه كان دائماً يتطلع للأفضل بأيّ شكل، وبأيّ طريقة. لم يكن مقتنعاً بهذه العيشة، وأصبح دائم التمرّد على حياته، وربما بالمعنى الأدق، ما كان يحصل عليه لم يكن يرضيه، ومن هنا كانت البداية.
تشكيل عصابي مثقف
كان المتهم قارئاً جيداً جداً، ومتابعاً لكل الأحداث العالمية، خصوصاً الاقتصادية والتجارية منها، وكان عاشقاً لعالم الـ«سوشيال ميديا» المملوء بالغموض، والجرائم، والأسرار. التقى ببعض أصدقائه ممّن تشابهت أحلامهم، وتصرفاتهم، وأخلاقهم، واقترح عليهم إنشاء منصة على مواقع التواصل للتداول، كان يستغل علمه الكبير بهذا الأمر، ويثق بفكرته بشكل مبالغ فيه، لكن الأمور لا تسير هكذا. كان الأمر يحتاج إلى بعض الترتيبات التي يأتي على رأسها وجود مقر فخم لهذه الشركة الناشئة، وبعض من الدعاية والإعلان، إضافة إلى أهم شيء، وهو كسب ثقة العملاء، والتسويق الكبير لاستقطاب الزبائن. السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة: هل كان كل هذا وهماً كبيراً، أم نصباً من البداية إلى النهاية؟ الإجابة لا.. كانت كل الأمور تسير في إطارها القانوني والطبيعي، أمام الجميع.
كانت أدوات النصب جاهزة، سيارة حديثة، ملابس فاخرة، رائحة العطر تفوح منه أينما حلّ، كان مظهره لا يدلّ على أنه مجرّد موظف في شركة للتداول، البعض كان يتساءل عن سبب التغيير الكبير في حياته، وكانت الإجابة عن هذه التساؤلات جزءاً من خطة الخداع الكبرى، حتى نجح، بطريقة أو بأخرى، في استمالة بعض العملاء الراغبين في الحصول على مكاسب كبيرة، بعدما أقنعهم باستثمار الأموال في شركته الخاصة، مشيراً إلى أن هذه الشركة كانت «وش السعد عليه».
وهم الثراء السريع
بدأت الشركة، أو المنصة، الخاصة بتداول الأوراق المالية والسندات، نشاطها بشكل مكثف، كانت تحقق أرباحاً بالفعل، لكنها غير حقيقية على خلاف المعلن عنه، أما فريق التسويق في الشركة فكان يقدم عملاً جباراً، مستغلاً تطبيقات مثل (الفيسبوك، والتيك توك، واليوتيوب، وغيرها)، كوسيلة سهلة لاستقطاب الباحثين عن وهم الثراء السريع، من خلال التداول لتحقيق أرباح كبيرة، من دون عناء. الموضوع لا يخرج عن فكرة توظيف الأموال، لكن بصورة حديثة أكثر منطقية وإقناعاً، لاستغلال الضحايا، أو الإيقاع بهم، بطريقة أو بأخرى، لتحقيق أرباح خيالية، منهم من دخل هذا العالم بمحض إرادته لتحقيق مكاسب مالية تحقق له حلم الثراء السريع، ومنهم من دخل هذا العالم بسبب الثقة بشبكة العلاقات الكبيرة التي كانت مثل فروع الشجرة، وكلما زاد عدد الزبائن ارتفعت الأرباح،. وطوال بضع سنوات، هي عمر عمل الشركة، كان كل شيء يسير باحترافية شديدة، وثقة غير قابلة للشك، أموال سائلة مثل الأنهار، وكل العملاء يحققون أرباحاً مُرضية بالنسبة إليهم، المكاسب يتم تحويلها إلى حساباتهم في مواعيدها في أول كل شهر، ما دفعهم للطمع أكثر وأكثر، لزيادة الرصيد من المكاسب.
مليار جنيه في مهب الريح
كان المتهم منظماً جداً، ولديه صبر كبير في انتظار الجائزة الكبرى التي ستقلب حياته رأساً على عقب. لم تكن الأرباح التي يتم صرفها في حقيقة الأمر هي نتاج حقيقي للتداول في البورصة، أو في الأوراق المالية، إنما كانت هذه الأرباح بمثابة الطّعم الذي ألقى به الصياد الماهر في طريق ضحاياه، بعدما ظن الزبائن أنهم بالفعل يحققون أرباحاً مُثيرة للاهتمام، والأمور تسير على أفضل ما يرام، ويوماً بعد آخر أصبح أعداد الطمّاعين «الضحايا»، في ازدياد، ونجح النصاب في جمع مبلغ مالي ضخم جداً جداً، تم تقديره فيما بعد، بنحو مليار جنيه.
أكبر عملية نصب والضحايا بالمئات
كان كل شيء يسير بعناية شديدة وفقاً لخطة محكمة، كأننا في مشهد من فيلم سينمائي شديد الحبكة الدرامية. ولكن، منذ ما يقرب من شهرين عندما جاء موعد تحويل الأرباح الشهرية كما هو معتاد، لم تدخل الأموال الحسابات الخاصة بكل العملاء.. نعم، استكمالاً لخطة الهروب والخداع الكبير تم تحويل بعض الفُتات إلى بعض العملاء، أما الأغلبية العظمى فلم تحصل على أي شيء. كان هذا الأمر جزءاً كبيراً من خطة الخداع حتى يتمكن جميع أفراد العصابة من مغادرة البلاد قبل افتضاح أمرهم، حيث وردت رسائل لجميع العملاء بالاعتذار عن خطأ في سيستم العمل، تسبب بتأخير الحصول على الأرباح لبعض العملاء، مع الوعد بصرف الأرباح كما هو معتاد في مواعيدها، من دون داع لأيّ خوف، أو قلق، والغريب في الأمر أن الجميع ابتلع الطّعم على خلفية الثقة التي كانت تتمتع بها الشركة معهم طوال فترة العمل السابقة.
انتظر العملاء اليوم تلو الآخر من دون جدوى حقيقية، ثم بدأت المرحلة الثانية من اكتشاف الحقائق تباعاً، عندما بدأت الشركة لا ترد على الاتصالات الهاتفية، كما أن الأرقام الأرضية خارج نطاق الخدمة. ترتيب الأحداث بدا مقلقاً وغريباً، ما دفع البعض للذهاب إلى مقر الشركة لاستطلاع الأمر، فكانت الصدمة الكبيرة التي زلزلت كيان الجميع، تبيّن أن المقر الذي كان يلتقي فيه العملاء ما هو إلا مكان مُستأجر انقطعت صلة المستأجر به فور فسخ انتهاء التعاقد، ولم يُعثر على أيّ أثر لأيّ من العاملين في الشركة، أو صاحبها، أو أي شيء من القائمين عليها، وأصبح الوصول إليهم ضرباً من المستحيلات بعدما تبخروا جميعاً، واختفوا عن الأنظار، حتى حساباتهم وصفحاتهم على مواقع التواصل تم إغلاقها، ولم يعد لها وجود من الأساس، وهي الصفحات التي كانت كلها حركة، ونشاطاً، وعملاء.
صرخات ودموع وإغماءات
أيقن العملاء في هذه اللحظة أنهم سقطوا في فخّ عملية نصب كبيرة، ومدبّرة بعناية شديدة جداً، ربما لم يسبق لها مثيل، ما دفع الضحايا إلى الهرولة لتحرير محاضر بتفاصيل الواقعة، وإبلاغ رجال الأمن بمباحث الإنترنت، ومباحث الأموال العامة، ووحدة غسل الأموال، حيث تضمنت مئات المحاضر تفاصيل كل ما حدث من البداية، ومواصفات النصاب الهارب، وكل شركائه. تم تكثيف الجهود الأمنية والقبض على بعض المتهمين، وليس جميعهم، كما لم يتم القبض على العقل المُدبّر، والمتهم الرئيسي، حيث وضع اسمه على قوائم ترقب الوصول، لكن حتى الآن ما زال المتهم حراً طليقاً يتنفس عبير الحرية، ويستمتع بأموال ضحاياه.
من جانبها، أمرت النيابة العامة بسرعة استكمال التحريات وتتبع هذا الشخص النصاب وإبلاغ «الإنتربول» بكل بياناته، أملاً في إلقاء القبض عليه.. تفاصيل كثيرة ومُثيرة ربما تكشف عنها الأيام المقبلة.
* إعداد: كريم سليمان