منع الهواتف والساعات الذكية في المدارس.. ضرورة تربوية لتعزيز التركيز

منعت مدارس، حكومية وخاصة، في أبوظبي، أخيراً، الهواتف والساعات الذكية، وهذا إجراء يتماهى مع تحقيق بيئة تعليمية أكثر تركيزاً، بعد أن سرقت تلك الأجهزة وقت وانتباه الطلاب.
ومن اللافت، أنّ بعض المدارس في الدولة قلصت استخدام الأجهزة اللوحية أيضاً، حتى أن مدارس أخرى ألغت استخدام الأجهزة في مرحلة الدراسة الابتدائية، متعللة بتأثيرها في المسار الأكاديمي للطلاب.
هذا القرار ليس بغريب، بل هو نابع من رصد الواقع القائم، ومدى تأثير تلك الأجهزة في التحصيل الأكاديمي للطلبة، حيث قادت مدارس في دول في العالم، ومنها بريطانيا وهولندا، وغيرها، «انتفاضة» ضد الهواتف الذكية، وحظرت استخدامها نهائياً، في حين عمدت دول أخرى، ومنها السويد وفرنسا، إلى حظر استخدام الجوّال، كما دعت السويد، تحديداً، إلى منع الرضّع من التعرّض للشاشات لتأثيرها السلبي في صحتهم.

إيجابيات.. وعودة إلى الكتاب الورقي
نهاد خالد البياتي، أم لثلاثة أبناء في مراحل دراسية مختلفة، ترفض رفضاً قاطعاً استخدام أبنائها للأجهزة اللوحية، أو الهواتف النقالة، وتقول: «أوصل أبنائي إلى المدرسة يومياً، وأعيدهم منها، ولا أجد حاجة إلى استخدام الهواتف، طالما أن النطاق الجغرافي لتواجدهم داخل المدرسة معروفاً، وعدا عن ذلك، فإنّ هذه الأجهزة تشتت تركيزهم، وتمنعهم من مواكبة شرح المعلم داخل الصف، حتى أنني أرى الكثير من الطلاب يهرعون لقطع الشارع وهم منشغلون باستخدام الموبايلات، ما يشكّل خطراً عليهم، بل إنّ بعضهم يعمد إلى الغش من تلك الأجهزة».
رفض الأم نهاد البياتي نابع من إلمامها بالتأثير السلبي للأجهزة اللوحية، إذ «إن العودة إلى الكتاب الورقي هو الحل»، مثنية على قرار المدرسة تقليص استخدام هذه الأجهزة في مراحل معيّنة، ما «يساعدنا كأهل على الحد من الآثار السلبية»، وموجزة الوضع بالتأكيد على أن «الأجهزة، سواء هواتف، أو تابلت، وساعات ذكية، كلها أدوات إلهاء للطالب، والبديل هو انخراطه في الصف، وتواصله الفعال مع الكادر التعليمي، ومع أصدقائه».
بدورها، تقرّ أم محمد، وهي والدة لطفلين في المرحلة الابتدائية، بأنّ الهاتف أداة قد تشتت الطالب عن شرح المعلم، ولكنه حاجة أساسية لتواصل الطالب مع أهله، وبالأخص «إذا كان يعاني أمراضاً مزمنة، كالسكّر.. أعرف طلاباً مرضى يعانون مشكلات صحية عدّة، واستخدام الهاتف، في هذه الحالات، قد يشكل ضرورة قصوى. من جهة يُشعر الطفل بالطمأنينة لوجود شبكة تواصل مع أهله، ومن جهة أخرى يبعث برسالة طمأنينة للأهل الذين يرغبون في متابعة حالة ابنهم الصحية».
إذن، قرار منع الهواتف والأجهزة والساعات الذكية في المدارس يواكب تجربة تعليمية أكثر إبداعاً وابتكاراً. وترصد الدكتورة هنادي السويدي، دكتوراه الفلسفة في الموهبة والإبداع، أبعاد هذا الإجراء إذ يندرج «ضمن جهود مكثفة لضبط سلوك الطلبة، وتحقيق بيئة تعليمية أكثر تركيزاً، وانضباطاً، ما يعزّز جودة التعليم، ويحسّن الأداء الأكاديمي، في ظل حرص الدولة على توفير أفضل المعايير للطلبة، وتحقيق رؤية تربوية قائمة على الانضباط، والالتزام».
كيف يحسّن هذا القرار البيئة الابتكارية عند الطلبة؟
تجيب د. السويدي: «في البيئة الصفية الابتكارية، من الضروري أن نُبعد الطالب عن المُشتّتات، مثل الأجهزة الذكية، أو اللوحية، لأنها تلهيه، وتضعف قدرته على التركيز. وعندما نُزيل هذه المشتتات، نخلق بيئة تعليمية محفزة تساعد الطالب على تنمية مهارات التفكير، الإبداعي والناقد»، وهذا النوع من البيئة الصفية لا يترك مجالًا للفراغ، أو التشتت، بل يشجّع الطالب على التركيز والمشاركة الفاعلة، ما ينعكس إيجاباً على تعلّمه، ونموّه الشخصي.
منع الهواتف والأجهزة في المدارس يساعد الطالب على التركيز وتنمية مهاراته الابتكارية
وتلاحظ د.هنادي أنه «في الآونة الأخيرة، بات كل فرد مشغولاً بهاتفه، سواء في التجمعات العائلية أو في البيئة المدرسية»، لافتة إلى أهمية «توفير بيئة إبداعية، وتنمية مهارات الطالب الابتكارية التحليلية، وكذلك مهارات التفكير الإبداعي لدى الطالب، بتصنيفيها التباعدي والتقاربي، وتزويده بأنشطة يدوية تبعده عن الأجهزة، ما يجعله منغمساً في العملية التعليمية».
وتستشهد بتجارب بعض الدول، من بينها إيرلندا وفرنسا والصين، في تنمية المهارات المهنية اليدوية لدى الطلاب: «ففي مرحلة الحضانة (رياض الأطفال)، يمارس الطلبة في الصين أنشطة تفاعلية وعملية تنمّي مهاراتهم الحركية، ومنها الرسم والتلوين، وصناعة السلال، وصناعة الحرف اليدوية، مثل الأوريغامي، وحتى أنهم يمارسون أنشطة خياطة بسيطة، وبطريقة آمنة».
وتتوقف عند وجود دراسات في فرنسا وإيرلندا توصّلت إلى قرار منع استخدام الهواتف في المدارس، بخاصة بالنسبة إلى الأطفال، كما خلص تقرير من 140 صفحة نُشر في مارس الماضي في فرنسا، إلى وجود إجماع واضح للغاية، على الآثار السلبية، المباشرة وغير المباشرة، للأجهزة الرقمية في النوم، وفي الحركة، وقلة النشاط البدني، وخطر زيادة الوزن، وحتى السمنة».
وتخلص د. السويدي: «هذه القرارات تنعكس إيجاباً على الاستقرار النفسي والسلوكي للطالب، وعلى استيعابه، كما تساعد على عودته إلى الألعاب الحركية والذهنية، من دون استخدامه، أو اعتماده على التطبيقات، والانشغال بالهاتف داخل الحرم المدرسي».
حماية الطالب نفسياً وفكرياً
قرار منع الأجهزة الذكية في المدارس لم يُتخذ اعتباطاً، بل لحماية الطالب فكرياً ونفسيا، بيد أن هذا القرار «يجب أن يكون مدروساً ويُقدَّم للطلاب بطريقة مقنعة، ومدعومة ببدائل إيجابية».. هذا ما تؤكده استشارية التدريب والتطوير الإداري إيمان العجان، مشيرة إلى أن «قضية منع الأجهزة الذكية، مثل الهواتف المحمولة والساعات الذكية والآيبادات، تنطلق من مبدأ أساسي، وهو الحفاظ على مصلحة الطالب، النفسية والتعليمية، وعلى البيئة المدرسية الآمنة».
وتوضح: «الأجهزة الذكية، وعلى الرغم من كونها جزءاً من العصر الرقمي الذي نعيشه، أصبحت مصدر قلق في المدارس، لا سيما بعد انتشار تطبيقات مثل «تيك توك»، وبرامج «التوك شو»، والمقالب، والمحتويات الحوارية السطحية، التي تُسهم في التأثير السلبي في نضج الطالب، واستخفافه بالتفكير النقدي، بل وقد تؤدي إلى تشويش في الهوية، المعرفية والسلوكية، للطفل».
وتضيف: «كما أن وجود هذه الأجهزة داخل الحرم المدرسي يسهل عمليات الغش، والاستسهال الأكاديمي، ويفتح الباب أمام الطلاب لتجاوز القواعد المدرسية، ما يُفقد المدرسة هيبتها كبيئة تعليمية منضبطة تُعزز القيم والانضباط»، مشدّدة على أهمية أن يكون المنع جزئياً، ومدروساً، وليس كلياً صارماً «لا نطالب بالمنع المطلق، بل نطالب بمنع منضبط يُطبق ضمن إطار تربوي، يراعي حاجات الطلاب النفسية والاجتماعية».

وفي هذا السياق، دعت العجان إلى ضرورة أن تسبق أيّ قرار تربوي حملة توعوية شاملة تستهدف الطلاب، والمعلمين، وأولياء الأمور: «يجب أن نوضح للجميع لماذا نتخذ هذا القرار، وما هي النتائج المرجوّة منه، وما هو الهدف الأساسي الذي نسعى لتحقيقه».
وتقترح تقديم بدائل فعّالة للطلاب تسهم في تعزيز الصحة النفسية لديهم، وتسد الفراغ الذي قد يتركه غياب الهواتف الذكية خلال اليوم الدراسي، مثل تنظيم برامج حوارية وتفاعلية، وفعاليات مدرسية ترفيهية، إلى جانب تقديم ما أسمته بـ«الأسئلة الذكية» التي تنمّي التفكير النقدي، والتواصل البنّاء بين الطلاب.
كما تشير إلى إمكانية تخصيص مدة زمنية خلال استراحة المدرسة يُسمح فيها للطلاب باستخدام هواتفهم بشكل محدود، ومنضبط، لتمكينهم من التواصل مع أسرهم، أو متابعة شيء ضروري، ضمن ضوابط تحافظ على انضباط المدرسة.
وتطرح إيمان العجان فكرة تقنية يمكن تنفيذها بالتعاون مع قسم تكنولوجيا المعلومات، تعتمد على تشفير، أو حجب تلقائي لمواقع التواصل الاجتماعي داخل المدرسة، بحيث لا يتمكن الطلاب من استخدام شبكة «الواي فاي» للوصول إلى تطبيقات غير تعليمية، مثل «فيسبوك، و«إنستغرام»، وتيك توك»، ما يُقلل من إغراء الهاتف، ويُشعر الطالب تدريجياً بأن حمله غير ضروري خلال اليوم الدراسي».

الشاشات.. آثار صحية سلبية في الطلبة
في كل الأحوال، لا يمكن التغاضي عن التأثير السلبي لاستخدام الأجهزة الإلكترونية في صحة الطلبة، حيث تلاحظ الدكتورة مروة توفيق، أخصائية علم نفس سريري في مركز ميدكير الطبي-فرع جميرا «ارتفاعاً متزايداً في عدد المرضى الذين يعانون آلاماً وانزعاجات يمكن ربطها مباشرة باستخدام الأجهزة الإلكترونية. ومن أبرز هذه المشكلات ما يُعرف بـ «الرقبة التقنية»، وهي حالة شائعة تحدث نتيجة قضاء ساعات طويلة في النظر إلى الهواتف الذكية بوضعية الانحناء. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا السلوك إلى إجهاد الرقبة، والجزء العلوي من العمود الفقري، ما يسبب تيبّساً وألماً، وقد يتطور في بعض الحالات إلى تغيّرات دائمة في وضعية الجسم».
وتلفت د.مروة إلى أنّ «الاستخدام المتزايد للأجهزة الإلكترونية، مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة، أفرز تحولاً واضحاً في طريقة تفاعل الناس مع العالم من حولهم. وعلى الرغم مما توفره هذه الأدوات من راحة وسهولة في الحياة اليومية، إلا أن لها آثاراً سلبية لا يمكن تجاهلها، خصوصاً في صحة العظام والمفاصل».
وتتوقف أخصائية علم النفس السريري عند مسألة أخرى مثيرة للقلق هي «ازدياد الوقت الذي يقضيه الناس في الجلوس أثناء استخدام الأجهزة الإلكترونية، مثل الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، والحواسيب المحمولة، وغالباً في وضعيات غير صحية ومنحنية. وسواء كان ذلك أمام المكتب، أو أثناء الجلوس على الأريكة، فإن هذا النوع من الجلسات يمكن أن يؤدي إلى آلام في الظهر، وإجهاد على العمود الفقري. ومع الاستمرار في هذه الوضعية لمدة طويلة، قد يتأثر الانحناء الطبيعي للعمود الفقري، ما يضاعف الضغط على أسفل الظهر، ويسبب مشكلات مزمنة مع مرور الوقت».
وتشرح: «الأطفال والمراهقون معرّضون أيضاً للخطر، إذ إن عظامهم لا تزال في طور النمو، وقضاء وقت طويل أمام الأجهزة الإلكترونية يعني غالباً، تقليص وقت النشاط البدني، لكون غياب الحركة والتمارين لتقوية العظام يزيد من احتمالية ضعف العظام، أو تأخر نموّها الطبيعي. أما لدى البالغين، فقد تؤدي قلة الحركة على المدى الطويل، إلى مشكلات مثل انخفاض كثافة العظام، أو ظهور مبكر لأعراض هشاشة العظام».
كما تلاحظ تزايد الحالات التي تعاني مشكلات في اليدين والمعصمين: «الاستخدام المتواصل للهواتف في الكتابة، أو الألعاب الإلكترونية يضع ضغطاً كبيراً على أوتار الإبهام، والمعصم، والمرفق، ويؤدي ذلك لدى البعض إلى الإصابة بالتهاب الأوتار، أو انضغاط الأعصاب، وهي حالات قد تؤثر سلباً في القدرة على أداء المهام اليومية بشكل طبيعي».
وثمة خبر سار، وهو أن معظم هذه المشكلات يمكن الوقاية منها بسهولة، تقول د. مروة توفيق: «الأمر يعتمد على الوعي بكيفية استخدامنا للأجهزة الإلكترونية. واتّباعنا لبعض العادات، منها:
- رفع الشاشات إلى مستوى العين.
- أخذ فترات استراحة منتظمة.
- ممارسة التمدّد والحركة خلال اليوم يمكن أن تُحدث فرقاً كبيراً.
- تشجيع الأطفال على اللعب في الهواء الطلق.
- تقنين وقت استخدام الشاشات يُعدّ أمراً أساسياً للحفاظ على صحة أجسامهم ونموهم السليم.
- الجمع بين الوعي، والعادات الصحية، والرعاية الطبية المتخصصة، يساعد الأفراد على تجنب المشكلات طويلة الأمد، والحفاظ على صحة أفضل، للعظام والمفاصل».