
التربية الجيدة والثقافة الواعية اللتان تفيدان أطفالنا ينبغي أن تشتملا على كل ما يغذي عقولهم، عقائدياً وأخلاقياً، ويربّي فيهم قيمة الطاعة لله، والحرص على أداء الواجبات الدينية، ويعمق في نفوسهم كل القيم التربوية الفاضلة والقدوة العملية الصالحة. ويلعب المسجد دوراً تربوياً وأخلاقياً هامّاً في تربية الأبناء، شريطة أن يتم ذلك في ظل توجيهات ورعاية أسرية ودعوية، تضمن اعتدال فكر وثقافة الأبناء.
فكيف نغرس في نفوس أولادنا آداب التعامل مع بيوت الله؟ وكيف نوجههم للاستفادة من مناخ المساجد، وما فيها من توجيهات دينية، وتربية، أخلاقية؟ وما موقف الشرع من الآباء الذين لا يفضّلون اصطحاب أولادهم إلى المساجد؟ وهل نترك أطفالنا في ساحات المساجد على سجيّتهم، أم يجب توجيههم ومراقبة سلوكهم، وتوجيههم للأفضل من السلوك والأخلاق؟
تساؤلات كثيرة حملتها «كل الأسرة» إلى عدد من علماء الأزهر وأساتذة التربية الإسلامية.. وهنا خلاصة ما قالوه، ونصحوا به:

مكاسب عدّة من ارتياد الأطفال للمساجد
بداية، يعدّد العالم الأزهري د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق، مكاسب الأطفال والأسر من تعويد الصغار على ارتياد المساجد «لا شك في أن كل ما يربط الأطفال بتعاليم دينهم وأداء الفرائض، والعبادات، والطاعات التي حثّ عليها الإسلام، واجب الآباء والأمهات أن يحرصوا عليه، فذلك من حسن التربية التي حث عليها الإسلام. وربط الأطفال بالمساجد أمر محمود شرعاً، بشرط أن يحرص الكبار على تعليم الصغار آداب التعامل مع المسجد والتواجد فيه، ولو صدرت بعض التصرّفات غير المرغوبة من الصغار في بداية عهدهم بالمساجد، فلا بأس، على أن يعلّمهم المرافقون لهم من الكبار الصّح والخطأ في هذه السلوكات، وبالممارسة سوف يتعود الصغار الالتزام بآداب المسجد، وهو أمر طيب تحتاج إليه كل أسرة، لأن وسائل الانحراف تحيط بأطفالنا في العصر من كل جانب، والمسجد سيظل مصدر هداية للكبار والصغار».
وأوضح د. جمعة أن الصورة الذهنية للمسجد في عقول أطفالنا تصنعها وسائل عدّة، أولاها البيت، ورسم صورة مثالية للمسجد في أذهان الأطفال هي من إحسان التربية التي هي حق للولد على أبيه، وإذا كان من واجب الآباء والأمهات تربية أولادهم داخل المنزل، على الفضائل والعادات والتقاليد التي تنطلق من قيم الإسلام وأخلاقياته، فمن مظاهر حسن التربية رسم صورة مثالية للمسجد في أذهان أطفالنا، وهي مسؤولية يتشارك فيها البيت مع مناهج التربية في مراحل التعليم المختلفة، لمدّ الطفل بالثقافة الإسلامية والحياتية المفيدة، وضبط سلوكه العام بالضوابط والقيم الأخلاقية».
المسجد وحياتنا المعاصرة
سألنا الفقيه د. محمد الشحات الجندي، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، عن دور المسجد في حياة المسلمين المتعاقبة: هل ما زال يقوم برسالته في ظل تحديات الحياة المعاصرة؟ فأجاب «المسجد كان، وسيظل مؤسسة تربوية أخلاقية تقوم برسالتها في حياة المسلمين، في مختلف العصور، وينبغي أن تتطور تلك الرسالة مع تطورات الحياة، ومتغيّراتها، فهو ركيزة أساسية في منظومة الإسلام التربوية، والأخلاقية، والحضارية، ويلعب دوراً مهماً في إعداد الشخصية الإسلامية وحسن تربيتها، بما يضمن استعدادها لتطبيق مبادئ الإسلام وتعاليمه».
المسجد بيت العبادة، وأفضل مكان لتكوين الشخصية الصالحة المستقيمة على المنهج
وأضاف «المسجد في فلسفة ومنظومة الإسلام الحضارية ليس مجرّد مكان يلتقي فيه المسلمون لأداء الصلوات، ثم ينصرفون، بل هو مؤسسة متكاملة تؤدي رسالة تربوية وأخلاقية لا يمكن الاستغناء عنها، ومن خلاله نستطيع إكساب أولادنا سمات شخصية لا يمكن اكتسابها إلا من خلال المسجد. ولذلك، كان أول لبنة في بناء دولة الإسلام عقب هجرة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة إلى المدينة. وحرصاً من صاحب الرسالة على تربية المسلم التربية السليمة كان أول عمل بدأ به الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، في تأسيس دولته هو بناء المسجد، فهو بيت العبادة، وأفضل مكان لتكوين الشخصية الصالحة المستقيمة على المنهج، وعن طريق التربية الإيمانية النابعة من دور المسجد، وبوحي منها، ينطلق المسلم بقوة العقيدة، واستقامة السلوك، ورقي الأخلاق، ليكون مصدر عطاء وصلاح، وتنمية للأرض التي يحيا على ثراها، وإشاعة الخير لجميع المحيطين به، والمتعاملين معه، من المسلمين وغير المسلمين، على السواء.
وفي المسجد ربّى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، صحابته الكرام على أحسن ما تكون التربية، قوة على المبدأ، وثباتاً على العقيدة، وشجاعة للحق، والاستزادة من جميل الخصال، ربّاهم على خشية الله، وتعظيمه، وإجلاله».

الأطفال في المساجد
كثير من الآباء لا يفضلون اصطحاب أطفالهم إلى المساجد، ولكن هل هناك محاذير شرعية في ذلك؟ أشار العالم الأزهري د. حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية والأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية، إلى أن «اصطحاب الأطفال إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة، أو الفرائض اليومية، أمر مهم جداً لتعويدهم على أداء الصلاة، وهو من الأمور المستحبة في شريعتنا الإسلامية؛ ويتأكد استحباب ذلك إذا كانوا مُميِّزين؛ لتنشئتهم على حُبِّ المسجد، وحضور صلاة الجماعة. فتدريب الصغار على الصلاة منذ نعومة أظفارهم من أهم أسس التربية الصحيحة.
لكن يجب الحرص يجب على تعليم الأطفال آداب المسجد برفق، ورحمة، وتشمل هذه الآداب ضرورة احترام المكان، والحرص على نظافته، وعدم إزعاج المُصلِّين، وعدم العبث بمتعلقاته. ولا توجد أية محاذير في اصطحاب الأطفال إلى المساجد، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان يصطحب بعض أحفاده إلى المساجد والروايات في ذلك كثيرة، وكان عليه الصلاة والسلام يحمل أحفاده وهو يؤُم المُصلِّين في المسجد. لكن لا يعني هذا أن نصطحب أطفالنا إلى بيوت الله ونتركهم يعبثون بها، ويشوّشون على المصلين، بل واجب الآباء والأمّهات قبل اصطحابهم أن يعلّموهم كيف يتعاملون مع بيوت الله برقيّ، وتحضّر، وسكينة، بعيداً عن كل صور الصخب التي يمكن أن تصدر عن التقاء الأطفال ببعضهم بعضاً، في أماكن أخرى غير المساجد».
ليس في توجيه الأطفال وإلزامهم بآداب المساجد تقييداً لحريتهم أو مصادرة لحق من حقوقهم، بل واجب الآباء في كل وقت
وتوجه الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية بالنصح إلى بعض الآباء الذين يصطحبون أطفالهم إلى المساجد ويتركونهم يفعلون ما يحلو لهم، وهناك تكون الشكوى من عبث الأطفال ببيوت الله، قائلاً «بالتأكيد من يفعل ذلك آثم شرعاً، لأنه يكون بإهماله وتقصيره في تربية وتوجيه أطفاله سبباً في العبث ببيوت الله. وليس في توجيه الأطفال وإلزامهم بآداب المساجد تقييداً لحريتهم أو مصادرة لحق من حقوقهم، بل واجب الآباء في كل وقت تربية أبنائهم الصغار على القيم والأخلاق الفاضلة، والسلوكات الراقية في كل مكان يحلّون فيه.. وليس هناك مكان أعظم من بيوت الله التي ينبغي احترامها وتقديسها، والتعامل معها برقي».
خذوا زينتكم
كما نشاهد أحياناً كثيرة أن بعض الآباء والأمّهات يصطحبون أطفالهم إلى المساجد بملابس البيت، وهنا أكد د. حسن ألصغير أن «الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتزين، ونلبس أفضل ثيابنا عند ارتياد المساجد، ما يعمّق مكانتها، واحترامها في نفوسنا. فالإنسان عندما يذهب لمقابلة مسؤول يرتدي أعظم ثيابه، وليس هناك أعظم من الله عز وجل، ولذلك عندما نذهب إلى المسجد، والوقوف أمامه في الصلاة علينا أن نكون في أعظم وأجمل هيئة.. ومن هنا حث القرآن الكريم على ارتداء أعظم الثياب عند الذهاب إلى المساجد فقال سبحانه «يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد»، وهذا السلوك الراقي واجبنا أن نغرسه في نفوس أطفالنا منذ الصغر، فنلبسهم الثياب النظيفة الجيدة عند الذهاب بهم إلى المساجد».

لا تطردوهم من بيوت الله
عبث أو فوضى سلوك بعض الأطفال في المساجد يدفع البعض إلى طردهم من المساجد.. بل في بعض الدول علقت بعض المساجد لافتات تنصح بعدم اصطحاب الأطفال، فما وزن هذا السلوك في ميزان الإسلام؟
أشارت د. سعاد صالح، أستاذة الشريعة الإسلامية بالأزهر، إلى أن «هذا سلوك خاطئ لا علاقة له بتعاليم الإسلام، وآدابه، فنحن نصطحب الأطفال، أو نستقبلهم في المساجد لنعلّمهم وندرّبهم على السلوك القويم، فالمسجد هو أعظم مدرسة تربوية على الإطلاق، وفي داخل المساجد نستطيع أن نعلّم أولادنا كثيراً من القيم والأخلاق الفاضلة، والمسجد له مهابته، وعندما يكتسب الأطفال هذه المهابة سوف تتعدّل سلوكاتهم إلى الأفضل. ولذلك، فإن طرد الأطفال من المساجد سلوك خاطئ، لا يجوز أن نفعله، وليس من حق أحد منع أطفالنا من ارتياد المساجد، ومن يفعل ذلك فهو مخطئ، وعليه أن يعود إلى رشده. وأقول لمن يتجرأ ويعلّق لافته على باب مسجد ينصح بعدم اصطحاب الأطفال «استقيموا يرحمكم الله».
فالتعامل مع الأطفال في المساجد يحتاج إلى حكمة وتنوير للآباء والأمهات الذين يصطحبون أطفالهم، كما يحتاج إلى حكمة من المصلّين ليكون رد الفعل على سلوك غير منضبط من طفل حكيماً، ويحمل قيماً تربوية، وأن يكون بعيداً عن العنف، اللفظي والجسدي، حتى لا تترسب معانٍ سلبية في نفوس الصغار تجاه المساجد، وتجاه من يرتادونها. علينا جميعاً الترفق بالأطفال حتى لا ننفّرهم من المسجد، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على حرمة المسجد وتحقيق الخشوع لرواده.
والرفق بالأطفال في المساجد جسّده لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد صعد يوماً يخطب فأقبل الحسن والحسين، رضى الله عنهما، وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما ثم صعد بهما المنبر، وقال: «صدق الله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هذين فلم أصبر»، ثم أخذ في الخطبة.
وكان النبي، صلّى الله عليه وسلّم يصلّي ذات مرة، إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، ولما همّ بعض الحاضرين بمنعهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره، وقال أبو قتادة رضي الله عنه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص - ابنة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلّم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها».

الأعمار المناسبة للذهاب للمساجد
هل هناك أعمار مناسبة للأطفال للذهاب إلى المساجد؟ أجاب د. محمد الشحات الجندي «الأطفال الذين في عمر التمييز، والذين يستطيع الآباء السيطرة على سلوكهم يستحب اصطحابهم إلى المساجد، ويبدأ هذا التمييز اعتباراً من سن الخامسة. لكننا لا ننصح باصطحاب الأطفال الصغار جداً إلى المساجد، لأنهم لا ينضبطون، ولا يخضعون لتوجيه، فمثل من كان عمره سنة، أو سنتين، لا يفضل حضوره إلى المسجد، ولا بأس بإحضار الأطفال الذين هم في الخامسة، أو السادسة، أو السابعة إلى المساجد».
كما أكد أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر أن تعليم الأطفال احترام آداب التعامل مع المسجد ينبغي أن يتم أولاً في البيت، عن طريق التلقين والترغيب من الآباء والأمهات «على الآباء والأمهات أن يعلّموا أطفالهم الالتزام بقواعد أدبية في الجلوس والتحرك داخل المسجد، أثناء الصلاة، أو أثناء الجلوس لقراءة القرآن، وتلقّي الدروس من العلماء والدعاة.. وغير ذلك من السلوكات العامة داخل المسجد».

آداب وسلوكات مطلوبة
ولكن، ما هي الآداب التي ينبغي أن نعلّمها لأطفالنا ليلتزموا بها داخل المساجد؟ أوضحها د. حسن الصغير بقوله «هناك آداب كثيرة علينا أن نحرص على نقلها لأطفالنا ليلتزموا بها داخل المساجد، وأبرزها أن هذا المكان هو بيت الله فلا ينبغي أن نفعل في هذا المكان شيئاً يغضب الله سبحانه وتعالى، فلا نكذب، ولا نسرق، ولا نمارس الغيبة والنميمة، ولا نعتدي على أحد، كما لا ينبغي أن تصدر منا أصوات مرتفعة تشوّش على المصلين، أو الذين يقرأون القرآن الكريم. أيضاً علينا أن نعلّم أولادنا أن المساجد ليست أماكن لهو، وعبث، وترفيه، بل هي أولاً أماكن للصلاة، وقراءة القرآن، وتلقّي العلوم الشرعية، وتعلّم المهارات التي تفيدنا في حياتنا».