الوصية بالجار نزل بها جبريل، عليه السلام، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مرة، حتى أن الرسول ظن أن الجار يشارك جاره في الميراث، كما يشارك القريب الوارث قريبه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وقد جعل الإسلام إكرام الجار لجاره دلالة على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، كما جعل الإسلام من دلائل الإيمان وكماله أن يأمن الجار بوائق جاره، أي غوائله وشروره، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه».
وفي ميزان ديننا العظيم، فإن إيذاء الجار، وعدم القيام بحقه، يحبط عمل صاحبه، ولذلك لما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال صلى الله عليه وسلم: «هي في النار».
لكن للأسف.. تلاشت حقوق الجيران في نفوس البعض، ونتج عن ذلك مشكلات وأزمات، لا تنتهي في واقع حياتنا المعاصرة، وقد نشبت، أخيراً، مشاجرة بين جارين في محافظة الجيزة المصرية، سقط فيها قتيل، و4 مصابين، نتيجة تلصص شاب على بنات جاره، واشتكى الجار لجاره أكثر من مرة، ولم يكفّ أبناءه عن هذا السلوك المشين.
التوصيف الشرعي للتجسّس على الجار وكشف حرمات بيته
يقول العالم الأزهري د.أحمد معبد، عضو هيئة كبار العلماء «وصايا رسولنا العظيم بالجار لا يوجد لها مثيل في أية حضارة أخرى، ولذلك واجب كل جار الإحسان إلى جاره، وحماية حرمات جاره، ومنع كل صور الأذى، النفسي والمادي، عنه، وحمايته من كل ما يسيء إليه، بل وتقديم كل عون له، والتعامل معه برفق، حيث لا يكفي منع الأذى عنه، ولا يكفي احتمال الأذى منه، بل لابدّ من الرفق وإسداء النصيحة المخلصة، وتقديم الخير والمعروف للجار».
ويضيف عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر «التلصّص على الجار، أو التجسّس عليه، وكشف حرمات بيته «جريمة أخلاقية يدينها الإسلام»، وعقاب من يفعل ذلك هو: الفضيحة في الدنيا والخزي في الآخرة، فرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته».
هل يجوز شرعاً مقاطعة الجار المؤذي لجاره؟
يوضح د. علي عثمان شحاتة، رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر «كل إنسان من حقه شرعاً أن يحمي حرماته، ويستر أهل بيته، ويمنع الأذى عنهم، وعندما يبتلى الإنسان بجار مؤذٍ عليه أن يسدّ كل المنافذ التي تكشف العورات، ويوجه أهل بيته بالحذر، ولا حرج شرعاً في مقاطعة مثل هذا الجار.
لكن علينا أن نعلم أن ديننا أوصى بالجار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أكد أن إكرام الجار والإحسان إليه من علامات الإيمان الصحيح، وطالما كانت العلاقة بين الجيران منضبطة بتعاليم الدين ووصايا رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام، لا يجوز مقاطعة الجيران إلا إذا تحقق الضرر من جهتهم، ولا يمكن دفعه».
بعض الجيران يتوهمون كراهية جيرانهم لهم، ويغلّبون سوء الظن في التعامل معهم.. وإلى هؤلاء يقول أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر «ينبغي تقديم حسن الظن في التعامل بين الجيران، وأن يحرص الجميع على تحقيق وصايا الرسول، صلى الله عليه وسلم بالجار، وعدم التصرف بناء على وهم، أو ظن غير راجح، ولذلك فلتكن صلتنا بجيراننا طيبة، وأقل ما يجب نحو الجار كف الأذى عنه، وما زاد على ذلك من تقديم الخير له فهو مندوب مستحب».
صور الإحسان إلى الجار التي أوصى بها الإسلام
يقول د. شحاتة «صور الإحسان إلى الجار في منظور ديننا كثيرة ومتنوّعة، ومن حقوق الجار أن يعيش المسلم آمناً على أمواله، وحرمات بيته من جاره، وأن يكثر من السؤال عن حاله، وأن يتتبع أخباره للاطمئنان عليه، من دون تتبع لأسرار بيته. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الوصية بالجار: «وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدْته، وإن مات تبعته جنازته، وإن أصابه خير هنّأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وألّا تستعلي عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها».
جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يشكو أذى جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اصبر»، ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: «اطرح متاعك في الطريق»، فجعل الناس يمرون به ويقولون مالك؟ فيقول: آذاني جاري، فأخذوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال له: ردّ متاعك فوالله ما أعود. وهكذا حرّك الرسول، صلى الله عليه وسلم، الرأي العام ضد الجار الذي يؤذي جاره، ولم ينصح من وقع عليه الأذى بالانتقام وردّ الأذى بأذى مثله، احتراماً وتقديراً لحق الجار.
اقرأ أيضاً: «الجار قبل الدار».. ما «إتيكيت» التعامل مع الجيران؟