04 نوفمبر 2025

كاثرين بيغلو تعود إلى سينما الأكشن السياسي

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

مجلة كل الأسرة

تعود المخرجة الأمريكية كاثرين بيغلو إلى السينما بفيلم هو الأول لها منذ سبع سنوات. ذلك أن العرض التجاري لفيلمها الجديد «بيت من الديناميت» (A House of Dynamite) انطلق تجارياً بنجاح جيد، ويشمّر الآن عن ساعديه ليدخل سباق الأوسكار المقبل.

مجلة كل الأسرة

إنه فيلم بيغلو الروائي الطويل الحادي عشر. قبله خاضت موضوعات شاقّة من حرب العراق في The Hurt Locker («خزانة الألم»، 2008) إلى تعذيب المشتبه فيهم للوصول إلى موقع بن لادن لاغتياله (Zero Dark Thirty («زيرو دارك ثيرتي»، 2012)، والوضع العنصري في الولايات المتحدة في Detroit («ديترويت»، 2017). هذا الأخير كان آخر عمل حققته بيغلو قبل هذه العودة. مثل أفلامها السابقة كلها، «بيت الديناميت» محكم كعمل، ومتميّز فنياً وسياسياً.

المخرجة كاثرين بيغلو
المخرجة كاثرين بيغلو

تعرض المخرجة، التي حاز فيلمها «خزانة الألم» الأوسكار في العام التالي لإنتاجه، لاحتمال اشتعال حرب نووية في يومنا هذا، بين الولايات المتحدة، وجهة مجهولة أطلقت صوب أمريكا مقذوفة نووية لا يمكن التصدّي لها.

لا يؤكد الفيلم مصدر الصاروخ الآتي من بعيد، قد يكون روسياً، أو صينياً، أو كورياً شمالياً. وقد يكون جهة أخرى استحوذت على هذا السلاح سرّاً، وقررت محو مدينة أمريكية، أو اثنتين، بها.

عدم التحديد يساعد الفيلم على أن يتحدّث عن الحدث من دون تحديد المعتدي على طريقة «نحن وهم». الفيلم ليس الأول في نوعه ومضمونه، فهو ينتمي إلى تلك المجموعة التي تداولت احتمال نشوب حرب نووية. لكن ما هو جديد تماماً فيه أن مخرجته تحدّد، دقيقة وراء دقيقة، ما قد يحدث إذا ما واجهت أمريكا هذا الخطر.

خطر لا مرد له

لا يترك الفيلم مجالاً للتخمين. هذا ما قد يقع فعلاً، واحتمالات وقوعه على النحو الذي نراه هي أعلى من أيّ احتمال آخر. القناعة بأن الحرب النووية لن تقع لا تفيد هنا، لأن المخرجة الجسورة ضبطت الفيلم على احتمالات وقوعها، ونجحت في تبرير وجودها: صاروخ نووي يعبر المحيط الهادي متّجهاً إلى ولايات الوسط الأمريكي. ليس هناك من مقدّمة تمهّد لما سيقع. الصاروخ في الجو والتفسير الأول لدى وزارة الدفاع أنه من الممكن أن يكون هناك خطأ ما في الأمر. لاحقاً يتحوّل الاحتمال إلى ريبة، والريبة إلى واقع. عندها تكون العاقبة كارثية والصاروخ وصل، وفشل اعتراضه.

نمضي مع جهات أمريكية مسؤولة كل منها تعيش ظروفاً مختلفة تؤدي إلى قدر واضح من سوء التواصل. حتى وزير الدفاع الأمريكي باكر (جارد هاريس)، يبدو حائراً في قراءة واضحة لما يدور. رئيس الجمهورية نفسه (إدريس ألبا)، لم يتعامل سابقاً مع وضع كهذا، ولا يبدو أنه يستطيع فعل أي شيء. لا يستطيع شن حرب ضد جهة ربما ليست من بادرت بالاعتداء.

مجلة كل الأسرة

شخصيات الفيلم متعدّدة، لكن كابتن ووكر (ربيكا فرغوسن)، هي المحور. تحاول إيضاح الموقف للجميع، وبعضهم يتجاوب أسرع من البعض الآخر. كثرة الشخصيات لا تشكّل عبئاً على الفيلم، والمخرجة تكتفي بإشارات دالّة، لكن موجزة للوضع الخاص والعائلي لكل شخصية. إشارات كافية لمد الموضوع بهامشه الإنساني. تحقق فيلماً لا ينتمي إلى تلك الأعمال السابقة التي تتحدّث عن أخيار وأشرار، أو عن بطولات فردية تتميّز بالمهارة والذكاء. في الحقيقة، ليس هناك من أبطال في هذا الفيلم. البطل الوحيد هو الواقع الذي تدفعنا إليه مخرجة تعرف تماماً ما تريد، وكيف تنجزه.

المخرجة وسط فريق عمل فيلم
المخرجة وسط فريق عمل فيلم "بيت من الديناميت"

تُبقي المخرجة بيغلو التشويق متواصلاً، والعلاقات بين الشخصيات تتماوج بين التفهم والتوتر. شخصياتها أدركت أن كل ما يحدث الآن وفي الساعات القليلة (ثم الدقائق الأقل)، القادمة بات من المحال تفاديه. يتم إطلاق صاروخ مضاد لكنه لا يُصيب الهدف. بين شخصيات الفيلم هناك رغبة في شن حرب ما، وأخرى في معرفة من أطلق الصاروخ قبل الرد المحتمل. هناك حيرة، وتخبّط، ومواقف متناقضة، كما نواح إنسانية لمدنيين يجهلون ما يقع، وقلّة يتم تحذيرها. الجميع تحت ضغط لا يُحتمل، وهذا الضغط النفسي ينتقل، من دون خيار، إلى المشاهد لكونه يدرك، على الفور، أن الفيلم لا يدور حول «ماذا لو…»، بل حول مدى استعداد الجهة التي تتعرّض للاعتداء لتفاديه، وعندما يصل الجواب بأنه ليس هناك من شيء يمكن فعله، فإن العقل يبدأ بالعمل مدركاً الفخ الذي نحن فيه.

بذا تبدو أفلام النكبة النووية السابقة دراميات يخرج منها المُشاهد بأسئلة ينساها في اليوم التالي. هنا يختلف الوقع. بيغلو وفيلمها لا يمضيان في منهج الدراما التي تريد أن تثير التشويق لأنه الخيار المناسب. المفاد الأخير هو أن لا احتمالات نجاة إذا ما وقعت الحرب النووية. الفيلم في الوقت ذاته ليس مستقبلياً، ولا يصوّر ما بعد الكارثة، بل يبقى في أتون وقوعها.