06 أكتوبر 2025

د. حسن مدن يكتب: «توبة» فضل شاكر أيقظت الحنين

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

مجلة كل الأسرة

حققت آخر أغنية بُثت للمطرب اللبناني فضل شاكر: «صحّاك الشوق من نومك... وبقلبي تعا كفي نومك»، في الأيام الأولى فقط لبثها عشرات الملايين من المشاهدات، وضجّت وسائل الإعلام المختلفة بكلمات الثناء والإعجاب بالأغنية؛ كلمات ولحناً، وبالطبع أداءً بصوت شاكر نفسه، المعروف بعذوبته ورقّته. ولم تكن هذه الأغنية الوحيدة التي استوقفت الجمهور في مختلف البلدان العربية، ونالت إعجابه من الأغاني ألتي أطلقها فضل شاكر بعد غيبة طويلة، بلغت نحو اثني عشر عاماً، وإن كانت هذه الأغنية قد حققت أرقاماً قياسية في الانتشار، وموجة أوسع من الثناء، فربّما لأنها أطلقت حالاً من الحنين الرومانسي الجميل في نفوس النساء والرجال الذين نشأوا على أغنيات فضل شاكر، قبل التحوّلات الدرامية في حياته ومواقفه، وتوقفه عن الغناء كلّ هذه السنوات.

هذا الإيقاظ الرومانسي الذي فعّلته الأغنية كان لافتاً. كيف للمشاعر التي خبت، أو خلدت إلى النوم لسنوات، وربما لعقود، أن تعود نشطة، أهو الشوق الكامن الذي فعلت الأغنية فعلها، بكلماتها ولحنها وأدائها، في إيقاظه، فأعادت الناس إلى «زمنٍ جميل» عاشوه، كانت فيهم مشاعرهم في ذروة التوهّج، ونفوسهم في ذروة التألق؟ هذا هو الأرجح، بخاصة إذا ما لاحظنا أن جزءاً كبيراً من موجة التلقي المبتهج بالأغنية أتت من أبناء وبنات الجيل البعيدين عن «صخب ودوشة أغاني المهرجانات»، كما عبّر الناقد المصري د. حسين حمودة في تعليقٍ له عن الأغنية على حسابه في «فيسبوك».

في حوار تضمنته رواية «الجنرال» لمؤلفها إلان سيليتو، بين جنرال وقائد أوركسترا، يقول الجنرال: «إنَّ الحرب أيضاً فنٌ راقٍ. وإدارة الجبهة مثل قيادة السّيمفونية. أنت تعرف أنَّ الآلة الفلانية في اللحظة المناسبة ستنطلق، أو ستسهم في العزف، وأنا أعرف أنه في اللحظة المناسبة سينطلق المدفع الفلاني، أو الدَّبابة الفلانية»، فأجابه مايسترو الفرقة: «أنت تقود سيمفونية الموت، أما أنا فأقود أوركسترا الحياة».

نستعيد هذا الحوار ونحن نقف أمام تجربة فضل شاكر التائب من «لوثة» التطرف التي انتابته في مرحلة فاصلة من حياته، وأبعدته عن الموسيقى والغناء ليجد نفسه في أتون صراع يمكن وصفه بالعبثي، حين أصبح مقاتلاً في إطار جماعة سلفية متطرِّفة في مدينة صيدا، التي هو ابن بيئتها، وتربَّى في أزقَّة مخيَّم عين الحلوة فيها، وأكثر تفسير راق لي لتحوّل فضل شاكر من الغناء إلى التطرّف حارماً جمهوره من متعة الاستماع إلى غنائه بصوته العذب، وإحساسه المرهف، التفسير المندرج في خانة التحليل النفسي، والذي يرى أصحابه أن هذا التحوّل ناجم عن شعور فضل بأنّ الغناء لم يحقِّق له التوازن المفقود في شخصيته التي قد تكون مركَّباً من ارتكاسات الطفولة، ومن الخوف من المجهول، فتحوَّل إلى التشدد.

كُثر غير فضل شاكر من اعتزلوا الغناء، أو الفن عامة، وقرروا، لسبب أو لآخر، الاعتكاف، وبعضهم تحوّلوا إلى منشدين دينيين، لكن اللافت أنّ شاكر لم يكتف باعتزال الغناء، ولم يتجه للإنشاد الديني، بل أطلق لحيته، وحلق شاربه، واختار حمل السلاح، ما فاجأ محبيه، لذا نهنئ أنفسنا، أولاً وفضل شاكر ثانياً بتوبته عن التطرف، وعودته إلى مطرحه الصحيح الذي كان فيه، وفيّاً للموهبة التي حباه الله بها، صانعاً للبهجة وحبّ الحياة، موقظاً في النفوس مشاعر الحب والشوق والتوق لكلّ ما هو جميل.