المرأة لا تشبع من الملابس. ولن أحاول هنا تحديد الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها هؤلاء النساء، لأن حب الثياب موجود لدى كل الفئات. وحتى أولئك اللواتي يرتدين المعطف الشرعي، والعباءة، فإنهنّ يحرصن على اقتناء أكثر من عشر عباءات، ومختلف الأزياء تحت المعطف. وهو نَهم انتقل إلى الرجال، وبالأخص إلى صغار السّن، الذين صاروا يتبارون بعلامات قمصانهم وسراويلهم، فضلاً عن الأحذية.
كنت أمرّ أمام البرلمان الفرنسي، قبل أيام، وصادفتني عدة أهرام مكوّمة على الرصيف لثياب مستهلكة. ما الحكاية؟ قيل لي إنها تظاهرة تطالب النواب بالإسراع في البت في مسودة قانون يحدّ من استيراد الثياب المصنوعة من خامات صناعية رخيصة تضرّ البيئة. وجاء في إحصائية نشرتها مجلة باريسية، أن الفرنسي يشتري ما معدله 48 قطعة ثياب في العام. وكثير من طلاب الجامعات والموظفين الصغار يعتمدون في أناقتهم على الملابس المستعملة. إن لها عشرات الدكاكين في عموم المدن الفرنسية، وقد رأيتها في أمريكا، أيضاً وفي بريطانيا، وكندا، وسويسرا.
مع الأزمات الاقتصادية وتفشي البطالة، تراجعت القدرة الشرائية أمام غلاء البضاعة الجيدة، وانتشرت ظاهرة تداول الثياب الـ«سكند هاند»، تلك التي تباع في بلادنا في أسواق «البالة». يسمّونها المتاجر الخيرية، وغالباً ما تديرها الكنائس. يأخذون الثياب والأحذية التي يتبرّع بها أهل الأشخاص المتوفين، ويغسلونها، أو يعقمونها، ثم يعرضونها للبيع. وهناك فتيات أنيقات يقصدن تلك المتاجر بانتظام، للفوز بقطعة ثياب تحمل علامة راقية تباع بثمن بخس، يقلّ بكثير عن سعرها في الواجهات البراقة. ونرى في هذا النوع من المحال بضائع متنوعة، كالكتب المستعملة، والصحون، واللوحات، وأدوات المطبخ.
في خزانة الكثيرات منّا ثياب تكفي لأعمارنا، ولأعمار إضافية. أي أنها ظاهرة عالمية باتت ملحوظة، شرقاً وغرباً. فقد تضاعف إنتاج الألبسة، خلال السنوات القلائل الماضية، بحيث بلغ مستوى غير مسبوق. وجاء في استطلاع بين ربات البيوت أن معظم ما نشتريه يبقى معلقاً في الخزانة، أو يعطى للشغالة، أو يذهب إلى سلة النفايات.
نحن نعيش عصر الهوَس بالمظهر. ومن المؤسف أن تكون الثياب هي معيار الحكم على البشر. يكفي أن يكون الملبس نظيفاً، وسليماً، ويناسب صاحبه. ومن المؤلم أن نسمع جامعيات يشعرن بالخجل لأنهنّ لا يملكن ثمن ما ترتديه زميلات موسرات. وأذكر أن تلك المشكلة دفعت وزارة التعليم العالي في العراق، إلى فرض الزي الموحد على الطالبات والطلاب. سترة كحلية، وتنورة، أو سروال رمادي. كان ذلك في أيامنا. وكانت مصانع الخياطة المملوكة للدولة توفر ذلك الزي بسعر ضئيل. مع هذا، بقي التباين واضحاً، لأن الطلاب المقتدرين كانوا يوصون على زيهم الموحد لدى أفضل الخياطين، ويختارون قماشاً غالياً.
سؤال يمرّ عليّ كثيراً: هل نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل؟ وأجد أن من الأولى أن نطرح سؤالاً موازياً: هل نلبس لنعيش أم نعيش لنلبس؟ وما زال نواب الأمة الفرنسية متردّدين في الموافقة على قانون منع استيراد الملابس المصنوعة من خامات مضرّة بالبيئة.