في العلاقات الزوجية يتسلّل الانسحاب العاطفي بصمت من دون ضجيج، أو صخب. يبدأ بخطوات صغيرة، ربما زعل متكرّر، صمت طويل، أو برود مشاعر. ويبدو في البداية مؤقتاً، لكنه في الحقيقة يخفي وراءه رغبة دفينة في الابتعاد، تتحول مع مرور الوقت إلى واقع مستقر، ويصبح التواصل شكلياً خالياً من الدفء والاهتمام.
في هذا الإطار، تكشف استشارية العلاقات الزوجية وتطوير الذات، الدكتورة هنادي علي «لم تعد الكثير من العلاقات الزوجية تنتهي بشكل صريح، وغالباً ما تبدأ النهايات من الداخل، وتنخفض المشاعر والأحاسيس بشكل تدريجي، حتى تصبح النهاية مجرّد خطوة شكلية، ومن أبرز علامات هذا التفكك هو الزعل الذي يبدو لوهلة أنه أمر طبيعي، لكنه في العمق رسالة غير منطوقة عنوانها «لم أعد أرغب في الاستمرار».
تكشف د.هنادي أن «الزعل في العلاقات ليس حالة واحدة، هناك زعل صحي ينشأ من الاهتمام، والرغبة في الإصلاح، من خوف الخسارة، ونوع آخر يستخدم كجسر للخروج، أو تمهيداً للانسحاب. وبين النوعين مساحة كبيرة لا يلاحظها الكثير، لكنها غالباً ما تكون المكان الذي تموت فيه العلاقات ببطء، ليكون الخلاف مجرّد سبب لاختبار الراحة بعيداً عن العلاقة، وإشارة مبطنة (يمكن أن أعيش من دونك)». تكمل «يجد الأشخاص المنسحبون في المسافة راحة. يمر فيه الوقت من دون أن يشعر أحد الطرفين بالخسارة، أو الفراغ. ويتعامل الطرف المنسحب مع الحياة كأن غياب الآخر تفصيلة غير مؤثرة، بل إن يومه أصبح أهدأ بلا وجوده. وبذلك يصبح الزعل فترة زمنية مريحة مرغوبة بالنسبة إليه. وهنا تحديداً، تبدأ العلاقة بالتفكك غير المرئي».وتوضح د. هنادي «تبنى العلاقات العاطفية على التفاصيل مثل، الاهتمام، سؤال صغير، إجابة صادقة، خوف من فقدان شخص، رغبة في تفسير سوء فهم. لكن حين تصل العلاقة إلى مرحلة تتساوى فيها التفسيرات مع الصمت، والاعتذار مع التجاهل، يتآكل الرابط العاطفي، وهنا يصبح الطرف المنسحب غير مهتم بالشرح، أو الاعتذار. لأنه ليس لديه رغبة في الإصلاح. والأخطر من ذلك، هو إحساس الطرف الآخر بالمشاعر نفسها».
تكشف الأسباب الكامنة وراء هذا الانسحاب:
-تراكم الخيبات الصغيرة، عندما يشعر أحد الزوجين بتجاهل شريكه تنفيذ وعوده، أو عدم تقدير جهوده، يضعف إحساسه بالأمان العاطفي، وتزرع داخله فكرة أن العلاقة لم تعد تستحق المزيد من المحاولات.
-غياب التقدير والامتنان، الشريك الذي لا يسمع كلمة شكر أو تقدير، يبدأ بفقدان الرغبة، أو المشاركة، ومع الوقت يتحول الصمت إلى لغة دفاع تبعده أكثر.
-فقدان الأمان العاطفي، يجعل الطرف الآخر يعيش في حالة توتر دائم، يخشى فيها من النقد، أو الرفض، أو التجاهل، فيكون انسحابه آلية لحماية النفس من الألم المتكرر.
-فقدان الاهتمام، حين يتوقف الطرفان عن الاهتمام ببعضهما بعضاً، والتعبير بكلمات بسيطة، مثل «شكراً»، «افتقدك»، «أقدّر جهودك»، تُقتل المشاعر، ويصبح كل طرف يعيش داخل عالمه الخاص.
لكن ما هي الإشارات التي تدلّ على تعمّد الشريك على الانسحاب من العلاقة من دون رجعة؟:
-الابتعاد المخطط له والمقصود (الابتعاد كلما اقترب الشخص من الشريك).
-برود متعمد في التواصل (الإجابة بجمل قصيرة، عدم المبادرة بالسؤال، أو الاتصال).
-إرسال رسائل متناقضة (الاقتراب فترة ثم الاختفاء فجأة من دون سبب واضح).
-استخدام الصمت كسلاح نفسي.
-غياب الرغبة في الإصلاح ( لا يحاول التفاهم أو الاعتذار).
وعن إمكانية إنقاذ العلاقة بعد الوصول لمرحلة الانسحاب العاطفي، تشير استشارية العلاقات الزوجية إلى أن «الوصول إلى مرحلة الانسحاب العاطفي لا يعني بالضرورة انتهاء العلاقة، لكنه بلا شك مؤشر خطر يحتاج إلى وعي، وجهد حقيقي لإنقاذ ما تبقى. فالعودة ممكنة، لكنها ليست سهلة، لأن إصلاح الانفصال العاطفي لا يتم عبر وعود لطيفة، أو كلمات رومانسية مؤقتة، بل من السلوك والتعامل. يجب أن تكون البداية من مرحلة إعادة البناء التي من دونها لا يمكن لأي علاقة أن تستمر، بعد ذلك تأتي مرحلة إعادة التعارف، حيث يحتاج كل طرف إلى فهم ما تغير في الآخر، وما هو بحاجة إليه ليشعر بالأمان والاهتمام». وتوضح «الاعتذار الصادق خطوة أساسية في طريق الإصلاح، اعتراف بجرح المشاعر وصدق النوايا لإصلاحها. لكن الأهم من كل ذلك هو التغيير الفعلي في التصرفات، لأن الوعود بلا أفعال تعيد خيبة الأمل وتزيد المسافة».
وتختم قائلة «بقاء العلاقة لا يعتمد على رغبة طرف واحد فقط، بل على إرادة مشتركة في إنقاذها. فحين يحاول شخص واحد الترميم بينما الآخر غائب، أو غير مهتم، تتآكل العلاقة ببطء، لأن الحب وحده لا يكفي إن غابت المشاركة في الجهد، والرغبة في البقاء».