منذ زمن بعيد، والخبراء يتساءلون عن الصفات المشتركة التي تدفع المرأة والرجل إلى تمضية حياة مشتركة تحت سقف واحد. أهي البيئة الواحدة؟ أم اللغة ؟ أم القرابة؟ أم التخصص المتشابه، أو الواحد؟ أم المستوى الاجتماعي والثقافي المتقارب؟
لا يخفى على أحد أن التكافؤ بين الزوجين هو أحد أهم العناصر التي تجعل الحياة الزوجية أكثر استقراراً، وتفهماً، واستمراراً. ولكن ما هو جديد، أن دراسة حديثة واسعة النطاق كشفت أن ما يدفع الجنسين للالتقاء في قفص الزوجية، وما يحدث بينهما من انجذاب، قد يعودان إلى وجود اضطراب نفسي مشترك بينهما!
فمن المعروف ومنذ زمن طويل، أن الانجذاب العاطفي بين الرجل والمرأة لا يقتصر على عمل الهرمونات والكيمياء بينهما، فحسب. فالخلفية الاجتماعية والثقافية الواحدة، والدين الواحد، والمستوى التعليمي المتقارب، والرؤى السياسية المتقاربة، وبعض الاختلافات الجسدية (مثل الطول والوزن، إلخ) قد تلعب دوراً في الانجذاب بين الطرفين. ويُطلق العلماء على هذه الظاهرة اسم «التزاوج الانتقائي». لكن، ما الذي كشفته الدراسة الحديثة؟
ووق ما جاءت به دراسة رئيسية نُشرت هذا الشهر في مجلة «Nature Human Behaviour»، ثمة سبب آخر يدفع شخصين إلى الرغبة في العيش معاً، ألا هو تشابههما في بعض الاضطرابات النفسية! ويرى الباحثون أن هذه الظاهرة قد تكون عالمية!
أجرى الباحثون وهم أعضاء في فريق بحثي دولي، دراسة على بيانات أكثر من 6 ملايين من الأزواج، شملوا 5 ملايين زوج تايواني، و570 ألف زوج دنماركي، و700 ألف زوج سويدي. وقد جرت متابعة بعض هؤلاء الأزواج على مدى أجيال عدّة، بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي.
وقد ركز الباحثون خلال دراستهم على 9 أمراض واضطرابات نفسية، هي: الفصام (شيزوفرينيا)، الاضطراب ثنائي القطب، القلق، الاكتئاب، التوحد، اضطراب نقص الانتباه (ADHD)، الإدمان على المخدرات، الوسواس القهري (OCD) وفقدان الشهية ( أنوركسيا)، كي يتمكنوا من معرفة مدى تشارك الأزواج في الاضطرابات العقلية والنفسية.
بيّنت الدراسة أن أحد الزوجين يكون معرّضاً أكثر للإصابة باضطراب نفسي معيّن إذا كان الطرف الآخر مصاباً بهذا الاضطراب، ولكن بدرجة أقل. وقد وُجدت هذه الصلة في الثقافات الثلاث (التايوانية، الدنماركية، والسويدية)، وعبر جميع الأجيال!
وتعليقا على هذه النتائج، قال «تشون شيف فان»، الباحث الأول في الدراسة، في لقاء مع مجلة «Sciences et Avenir»: «لقد توقعنا أن نجد ارتباطات في المرض النفسي الواحد بين الأزواج، لكننا لم نكن نتوقع ما اكتشفاه من انسجام، واتساق، واستمرارية».
وعلى الرغم من اختلاف الثقافات وأنظمة الرعاية الصحية بين الدول الثلاث، جاءت النتائج متشابهة إحصائياً في جميع مجموعات البيانات. ولم يُلاحظ إلا بعض الاختلافات بين الدول في ما يتعلق باضطراب الوسواس القهري، والاضطراب ثنائي القطب، وفقدان الشهية، والتي كانت أقل ارتباطاً بين الأزواج المقيمين، في تايوان.
يفتقر الباحثون حالياً إلى البيانات اللازمة لتوضيح هذه الظاهرة. وتفيد فرضيتهم الأولى أن الأشخاص الذين يعانون مشكلات في الصحة النفسية يواجهون «قيوداً اجتماعية» تحد من اختيارهم لشركاء حياتهم، وبالتالي تزيد من احتمالية البحث عن شخص يعاني من المشكلات ذاتها.
أما الفرضية الثانية فتفيد بأن العيش مع شخص يعاني مرضاً نفسياً قد يُهيئ البيئة لتكون ملائمة لظهور اضطرابات نفسية لدى الشخص السليم.
وأخيراً، قد تُقرّب المشكلات والمصاعب الحياتية بين شخصين أكثر من غيرهما، بسب التفاهم المُتبادل بينهما، والإدراك العميق لحالة كل منهما.
يبدو الأمر مجرّد فضول علمي، لكنه يثير في الوقت نفسه عدداً من التساؤلات. ففي الواقع، ثمة بُعدٌ وراثي هام للاضطرابات النفسية، وينطبق هذا البعد بشكل خاص على الفصام، والاضطراب ثنائي القطب، والإدمان، والاكتئاب. فإذا كان أحد الوالدين يُعاني اضطراباً من الاضطرابات المذكورة، فإن احتمال انتقاله وراثياً إلى الأبناء قد يتضاعف عشر مرات!
ويُعرب الباحثون في مقالهم عن قلقهم من أنه إذا كان كلا الوالدين مصاباً بمرض نفسي ما، فإن الأبناء يكونون معرّضين للإصابة به بمعدل الضعف، أو أكثر، من أولئك الذين يكون أحد أبويهم مصاباً فقط.
ويرى الباحثون أن علاج الشخص الذي يعاني مشكلة نفسية يجب أن يدفع الأطباء ليس فقط إلى الاهتمام بالصحة النفسية للزوج/الزوجة، بل أيضاً بصحة أطفالهما، فهم فئة معرّضة للخطر بشكل خاص، وتستحق اهتمامًا مستمرًا للوقاية الفعالة.
يقول المثل العربي الشهير«وافق شنّ طبقة»، عند توافق العقل والتفكير بين الزوجين، وذلك لدى أصحاب الذكاء، والحكمة، والدهاء، فهل يوافق «شن طبقة» عند إصابة أحد الطرفين بخلل نفسي، أو ذهني؟ العمل الواحد، والأحداث المشتركة، وظروف الحياة المتشابهة كفيلة بأن تعطينا الإجابة عن تساؤل كان، وما زال، يشغل العقول.