04 سبتمبر 2025

د. حسن مدن يكتب: «بلا ولا شي»

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

مجلة كل الأسرة

تبدأ أغنية أجنبية بالقول: «تعال نتحدث عن لاشيء»!.. اللقاء الذي تعنيه الأغنية لا يشبه اللقاءات المعتادة. نذهب إليه لا لبحث موضوع معين. الموضوع هو الشخص الذي ذهبنا معه. إننا نريد رؤيته والحديث معه، وليس هامّاً عمّ سنتحدث، سنجعل من كلّ أمر صغير موضوعاً، يمكن أن نتحدث عن كل شيء، ويمكن أيضاً أن نتحدث في أشياء نعرفها، ليست جديدة تماماً، مع ذلك نكتشف فيها متعة وجديداً، في كل مرّة نتحدث عنها.

نذكر هذه الأغنية الأجنبية ونحن بصدد الحديث عن الأغنية الجميلة «بلا ولا شي»، التي كتب كلماتها ولحّنها الفنان الراحل زياد الرحباني، وتقول في مطلعها: «بلا ولا شي/ بحبك/ بلا ولا شي/ ولا فيه بها الحب مصاري/ ولا ممكن فيه ليرات/ ولا ممكن فيه أراضي/ ولا فيه مجوهرات/ تعي نقعد بالفي/ مش لحدا هالفي/ حبّيني وفكّري شويّ»، وإذا كان الحديث الذي تطالب به الأغنية الأجنبية حرّاً من كل شيء، حديثاً حرّاً مفتوحاً، فإن الحب وفق أغنية زياد، حبّ من أجل الحب. حبّ لا أهداف له سوى الحبّ، حرّ من القيود والشروط؛ شروط أمّ الحبيبة وأبيها، وضجيج أصدقائها، خفيفي وثقيلي الدم معاً (الثقلا والمهضومين)، ولتكن مساحة «الفي» المشاعة للجميع فضاء الحب المنشود.

ما يريده العاشق في أغنية زياد حبّاً حرّاً، نقيّاً وصادقاً، زاهداً أقرب إلى عشق المتصوفين، بما ينسجم والمزاج اليساري لزياد نفسه، النابذ لمظاهر الحياة الاستهلاكية بمظاهرها المبتذلة، والتائق إلى حياة هادئة وهانئة، في آن، بعيدة عن صخب الاستعراض والمظاهر والزيف الشائع، وإن بدا العاشق في الأغنية الأجنبية مطمئناً إلى موافقة المعشوقة في اللقاء معه على التحدث عن «لا شيء»، فإنّ العاشق في أغنية زياد بدا كمن يناشد المعشوقة الهاجرة بالإصغاء إلى طلبه المرهف لها، لذا تكرّرت في الأغنية مفردات الرجاء: «تعي»، «حبّيني»، «فكّري شوي»، وإن أشعرتنا الكلمات بجوٍّ من الخيبة، فإنها ليست خيبة من الحبيبة بالضرورة، وإنّما من الشروط الاجتماعية المحيطة التي يدعو الحبيب إلى التمرّد عليها، أو التحرّر منها.

وزياد الرحباني المتقشف في الحياة والزاهد في ملذاتها، متقشف أيضاً في كتابة كلمات أغانيه، وهذا ما ينطبق على هذه الأغنية|، حيث يميل إلى الجمل القصيرة، الآتية من الحياة، من الكلام اليومي، ولكنه بعبقريته يمنحها شحنة شعرية ودلالية عميقة، وهي مهارة لا يقوى عليها إلا قلّة هو أبرزهم، فزياد لا يسهب أو يطيل الشرح، وإنما يكتفي بالإيماءة التي تقول الكثير، وتصل إلى قلوب الناس بمنتهى السلاسة، ومردّ ذلك صدق كاتبها، وهو يحكي مشاعره وخيباته، العاطفية والشخصية، بكل شفافية ومن دون مواربة، ما جعله قريباً للغاية من محبي فنه، الذين فجعهم رحيله المبكر.

يظهر كلّ ذلك لا في هذه الأغنية وحدها فقط، وإنّما في الكثير من أغانيه العاطفية: «عندي ثقة فيك»، «بصراحة»، «مربى الدلال»، «خلص الحب»، «عايشة وحدا بلاك»، «ياعمي أنا ما تغيرنا»، وسواها، حيث تسود البساطة المعبّرة، التي جعلت، وستجعل من عناوين ومفردات الكثير من هذه الأغاني أشبه بالحِكم، أو الأقوال الشعبية، التي يتداولها الناس في أحاديثهم اليومية، وفي تعبيرهم عن عواطفهم، وأشواقهم، وخيباتهم، ويأسهم، وآمالهم، المغدورة أو المرتجاة.