لا يزال المسلسل الهزلي المرتبط بخلافات ليلة الزفاف على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، مستمراً، حيث افتعال المشاكل بين العروسين وتصوير الواقعة بطريقة احترافية لتصل إلى حد التهديد بالانفصال، أو مغادرة أحدهما القاعة، معلناً إلغاء الحفل، لتأتي الردود والتعليقات التي تكشف هذه المواقف وتثبت أن الهدف منها «الترند».
فها هي عروس تقف منتظرة دخول شريك حياتها ليراها أول مرة بفستان الزفاف، حاملاً معه باقة الورد ليقدمها إليها، لتفاجأ هي ببدلته المزركشة غريبة الشكل، فيدب الخلاف بينهما اعتراضاً عليها مطالبة إياه بتغييرها، ليقابل ذلك بالرفض متمسكاً برأيه لإعجابه باختياره تارة، وباستحالة اللحاق بالمعازيم المنتظرين تارة أخرى، لتبدأ مناوشات بين الطرفين تنتهي بإعلانه هو انسحابه من الحفل.
وحالة أخرى لعريس يترك الحفل بعد أن اعترضت العروس على فساتين مدعوات كونها بيضاء، معلنة عن نواياهن إفساد طلتها، مطالبة إيّاه بوجوب أن يغيّرن ما يرتدينه، فيرفض هو من باب أن المسألة حرية شخصية، كل ذلك يتم على مسمع ومرأى من بعض الحاضرين الذين يهمهمون بكلمات تشعل أحد الطرفين، ويتابع كل ذلك مصور محترف، يؤدي دوره ويتنقل بالكاميرا بين الجميع بمهارة ليوثق كل اللحظات بدقة عالية.. ترى ما مدى انعكاس مثل هذه المواقف الكاذبة على متابعيها، ومدى تأثيرها في جيل الشباب؟
حلم الشهرة بأي وسيلة
يقول يعقوب الحمادي، أخصائي اجتماعي «عندما يتفق الزوجان على صنع محتوى يخدع الناس، الذين يصدقون ويتفاعلون، وربما يتشاجرون مع بعضهم بعضاً بسبب التعليقات التي تنحاز لطرف دون آخر، ومن ثم يكتشفون الخدعة، وأنها لا تمت للحقيقة بصِلة، يكون من السهل أن يفقدا مصداقيتهما، ويصنفا ضمن الأشخاص الكاذبين، ولا ننكر حقيقة هامة، وهي أن هناك بعض «الترندات» إيجابية ولها مغزى إنساني، خاصة عندما ترتبط بإظهار عمل له قيمة، إلا أن المثير للاشمئزاز انسحاب هذا السلوك على جميع الأحداث التي نمرّ بها، التي من المفترض أن فيها خصوصية، مثل نشوب خلاف بين شخصين، فما الضرورة التي تستدعي نشر تفاصيله بين الناس.
وقد كان قديماً يتم التستر على مثل هذه المواقف خشية أن تكون وجبة دسمة على الألسن؟ فالآن قد تبدل الحال، بل ووصل الأمر إلى فبركة المواقف، وما يزعجني انتشار الظاهرة المرتبطة بافتعال عروسين لمشكلة بهدف الوصول إلى «الترند»، لتحقيق حلم الشهرة وأيضاً الحصول على المال بأي وسيلة، كل ذلك يفقد القيمة التي على أساسها تبنى البيوت، فالأفضل للزوجين الانشغال بحياتهما الحقيقية وبناء مستقبلهما، والتفكير في الاستقرار، الأسري والعائلي، وبناء جيل قوي ذي عقلية سوية مبنية على الصدق والواقعية».
بداية الزواج بخدعة أو كذبة
من جانبها، توضح د. ريفين نبيل دياب، لايف كوتش ممارس ومدربة مهارات حياتية «لابد من مواجهة مثل هذه النماذج السلبية لكونها مصطنعة لأحداث وهمية، لأن هذا يعرض المجتمع إلى الانهيار القيمي خاصة بين الشباب والمراهقين، مع ضرورة وجود نص في القانون لمعاقبة صاحب «الترند» المزيف، مثله مثل عقوبة الابتزاز الإلكتروني، والتنمّر، وغيرهما، والعمل على فضح هذا السلوك ووصم صاحبه بالمزور.
فكيف نربّي أبناء يبدأون حياتهم الزوجية بخدعة أو كذبة، والتي بلا شك ستنسحب على مواقف كثيرة قادمة؟ فتربية الأطفال ضمن جو أسري سليم من الأمور المهمة، إذ يجعلهم ذلك ينعمون بفوائد الأسرة القوية، والمستقرة، على عكس الأطفال الذين يعانون تفككاً أسرياً، فما يفعله بعض الأشخاص للوصول إلى «الترند» سوف يؤثر في صحة أبنائنا النفسية، ويهز المفهوم الحقيقي لمعنى الزواج، وعلى الوالدين حماية أبنائهما بالتحدث معهما عن هذه السلوكات، والتركيز على تعليمهم المعنى السامي للزواج».
نتحمّل المسؤولية المجتمعية في مواجهة ظاهرة «الترند»
تتابع د. ريفين دياب «نحن نتحمل جزءاً من المسؤولية المجتمعية في مواجهة ظاهرة «الترند»، التي تعني بلغة وسائل التواصل الاجتماعي الشيء الرائج، والمنتشر، أو الحدث الأكثر شهرة، وباتت كلمة يرددها الأطفال ويلهثون لتقليد ما يشاهدون، فالأسرة من المفترض أن تلعب دوراً حاسماً في تنمية الذات لدى أفرادها، فعندما يعيش الشخص في بيئة أسرية صحية ومتوازنة، يمكنه تطوير مجموعة متنوعة من المهارات والقدرات التي تساعده على التفاعل مع العالم الخارجي بثقة، ونجاح، ويعتبر التواصل المفتوح والصحيح بين أفراد الأسرة من أهم الطرق لإبعاد الأبناء عن مثل هذه الأفكار الخاطئة».
مخاطر وعواقب سيئة
أما علي الكندي، مدير مركز الإصلاح والتوجيه الأسري بالفجيرة، فيؤكد «احتلت مواقع التواصل الاجتماعي الحيز الأكبر من حياتنا المعاصرة، إذ انشغل الكثير من الرجال والنساء بها لدرجة إدمانها، وقضاء الأوقات الطويلة في التفاعل مع ما ينشر على الصفحات، والانشغال عن شريك الحياة، بل جعلها البعض مهرباً من إمضاء الوقت مع الطرف الآخر، بسبب عدم وجود التواصل والتحاور، ما يوسّع الهوّة بينهما بدلاً من التقارب، والتحابب، والمؤانسة، فظهرت سلوكات غريبة على مجتمعاتنا العربية، وأعرافنا الوطنية، فأصبح من السهولة بمكان تواصل الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وتحدث بعضهم مع بعض، بلا حواجز ولا قيود، ما أدى إلى جعل هذه السلوكات الدخيلة تعكّر صفو الحياة الزوجية المبنية على السكينة، والمحبة، والمودة.
ولذا نجد لهذه المواقع أثراً بليغاً في تشتيت الأسرة، وتفكيك أواصرها، وتدمير العلاقات الزوجية باللجوء إلى الطلاق، بسبب شعور البعض بالملل عند الجلوس مع أفراد أسرته، أو عند الزيارات العائلية؛ ما يغرس في نفسه الشعور بالاستغناء عمّن حوله، ولو أدى ذلك إلى الانفصال عن شريك حياته، وقد تعاظمت هذه الظاهرة حتى أصبحت واقعاً تعج به أروقة المحاكم طلباً للانفصال».
ويضيف «من الأمثلة المؤلمة أن ترى امرأة تقبل التنازل عن حضانة أبنائها مقابل تعلّقها الشديد بمواقع التواصل الاجتماعي والإدمان عليها، فأي قلب تحمله هذه الأم، وأي رحمة نزعت منها حتى تفضل مواقع التواصل على فلذة أكبادها؟ وفي المقابل، نجد رجلاً منغمساً في مواقع التواصل، مضيعاً من يعول، منسلخاً من مشاعر الأبوّة، ومن حنان الزوج، منساقاً في هذه المواقع وراء أوهام كاذبة، وعلاقات تؤدي به إلى البعد عن أفراد أسرته.. فليحذر أبناء مجتمعنا، فالأمر عظيم المخاطر والتبعات، والمصاب جلل».
فكرة أن تصبح بين ليلة وضحاها «ترند» هي فكرة برّاقة تكاد تعمي البصر
ويوضح الكندي «الظواهر الاجتماعية الغريبة مرتبطة بشكل وثيق بالعقل الجمعي، أو ما يسمى بالمطابقة الاجتماعية، وتحدث عندما يفقد الأشخاص قدرتهم على اتخاذ القرار المناسب، ويفترضون أن الآخرين يعرفون أكثر منهم، وأن تصرفاتهم ربما تكون هي الصحيحة، فينجذبون للسائد من دون تفكير، فيما يشبه سلوك القطيع، وهذا هو من أشد الأسباب وأكثرها تأثيراً للسلوكات السلبية التي تصدر من بعض أفراد المجتمع، ففكرة أن تصبح بين ليلة وضحاها «ترند» يتحدث عنك الجميع بعد أن كنت لا يعرفك سوى المقربين، هي فكرة برّاقة تكاد تعمي البصر، فضلاً عن البصيرة.
فتجد الكثير ينساق وراء هذا من دون التفكير في عواقبه السيئة، فضلاً عن المتبني لهذه الفكرة (والمقصود هنا الأزواج والزوجات)، الذين لا يعون معنى أنهم مقبلون على ارتباط وثيق ومؤسسة سامية من المفترض أن يكون ملؤها السكينة والرحمة، وغطاؤها الخصوصية والاستقلالية، وسمتها الستر والحياء، فحين ينسى، أو يتناسى طرفا هذه المؤسسة ما هما مقبلان عليه، ويلهثان وراء بريق المال والشهرة تكون النتيجة رقماً آخر يضاف إلى أعداد المطلقين، أو طالبي الانفصال، غير مكترثين بضحايا هذا السفه، وأعني الأطفال الذين سيكون وضعهم في أحسن الأحوال التنشئة في بيوت غير صحية تربوياً، مع أبوين بحاجة قبلهم إلى التربية والتوجيه.
وتعليقي على كل من ارتضى أن يكون غير مؤتمن على أسرته، أن الناس يلهثون وراء المال طلباً لعيش رغيد، حتى لا يراق ماء الوجه فيخسروا كرامتهم، فعلى ماذا تلهث أيها الباحث عن «الترند» وقد فقدت كرامتك؟».