هل يمكن أن تسبب وسائل التواصل الاجتماعي اضطرابات في الصحة العقلية؟
على الرغم من كثرة عدد الأصدقاء الافتراضيين الذين يحيطون بالإنسان العصري، وعلى الرغم من التواصل المستمر معهم، معظم ساعات النهار، وقدراً كبيراً من الليل، يعيش الإنسان، اليوم، فراغاً عاطفياً واجتماعياً كبيراً، ويصاب كثر باضطرابات نفسية بسبب التأثر وسوء الفهم والتفاهم عبر مواقع التواصل، حيث الشخصيات متنوعة، وتظهر صفات نفسية لم تكن مكشوفة في عصر ما قبل تطور التكنولوجيا.
ولا ينظر الأطباء اليوم، كما في الماضي، إلى المعاناة النفسية على أنها ناتجة عن تعدّد الشخصيات المحيطة بالإنسان اليوم، بقدر ما ينظرون إليها من خلال العلاقة بينها وبين وظائف الدماغ. فهل كل اضطراب نفسي يتأتى عن تعدّد العلاقات، يرتبط بالدماغ مباشرة، ويشير إلى خلل في جزء من أجزائه؟ وكيف يمكن إصلاح الاضطرابات النفسية التي زادت في عصر الإنترنت، قبل أن تفعل فعلها في الدماغ؟
يقول الخبراء إن جميع الأمراض النفسية تؤثر في الدماغ، بطريقة أو بأخرى. فهم يجدون علاقة معقدة بين الاضطرابات النفسية، مهما كانت أسبابها، والعمليات البيولوجية في الدماغ، وتشمل الأمراض النفسية مجموعة واسعة من الحالات التي تؤثر في التفكير، والشعور، والسلوك. وهذه بعض أسباب الاضطرابات النفسية للإفراط في استخدام مواقع التواصل:
1- المقارنة بالآخرين:
تشجع وسائل التواصل الاجتماعي على مقارنة الذات بنسخة مثالية لا تشوبها شائبة من حياة الناس؛ صور للعطلات، تجمعات عائلية، لقاءات للأصدقاء ممتعة، منشورات للنجاح المهني والعاطفي...إلخ، الأمر الذي يدفع الشباب خصوصاً، إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين، من حيث عدد المتابعين، والشهرة، والمال، ومظاهر الجمال الجسدية، وأحياناً قد تؤدي هذه المقارنات إلى عواقب وخيمة على الصحة النفسية، خصوصاً لدى الفتيات المراهقات.
2- التنمّر الإلكتروني
لقد أصبح التنمّر الإلكتروني شائعاً وبشكل متزايد، الأمر الذي يشكل عامل خطر على صحة الشباب النفسية، ويمكن أن يؤدي إلى مشكلات مثل القلق، والاكتئاب، والرغبة في إيذاء النفس، والشعور بالوحدة، وقد يشمل هذا التأثير تغيّرات في عادات الأكل واضطرابات في النوم.
3- الإدمان:
غالباً ما تُسبب وسائل التواصل الاجتماعي إدماناً، فالاستخدام المفرط لهذه الشبكات قد يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، واضطرابات في النوم، وتراجع في تقدير الذات، وحتى إلى العزلة الاجتماعية.
وتتمثل السلوكات الإدمانية ، بالخوف من تفويت شيء ما على مواقع التواصل، والذي يدفع المستخدمين إلى الاطلاع على هذه المواقع بشكل مفرط، للتأكد من أنهم لم يفوتوا حدثاً واحداً مع الأصدقاء.
تأثير الضغط النفسي الذي تسببه وسائل التواصل على المخ:
يمكن أن يتسبب الضغط النفسي الذي تولده ظروف الحياة ومحاولة الهروب منها إلى مواقع التواصل التي تزيد الأمر سوءاً، بضعف في الذاكرة، ذلك أن زيادة الضغط، واستمراره وتكراره، تؤدي إلى تلف خلايا المخ. ففي الدماغ قد ينكمش مركز الذاكرة بسبب التوتر الزائد، وما يرافقه من اكتئاب، فتتردّى الذاكرة وتضعف.
من ناحية أخرى، تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي في الدماغ بطرق متعدّدة، منها التأثير في التركيز، والمزاج، والوظائف الإدراكية. فالاستخدام المفرط قد يؤدي إلى انخفاض مدى الانتباه بسبب التشتت المستمر، وزيادة القلق والتوتر، واضطراب النوم نتيجة لتأخير إنتاج الميلاتونين. كما تشير بعض الأبحاث إلى أن الوقت الذي يقضيه المستخدمون على هذه المنصات يرتبط بانخفاض الأداء الإدراكي، وتغيّرات في بنية الدماغ، خصوصاً لدى المراهقين.
تأثير إدمان مواقع التواصل في الدماغ:
أ- تأثير في النمو:
يمكن أن يؤثر الإفراط في استخدام الشاشات في نمو الدماغ، خصوصاً لدى المراهقين. وقد أظهرت الدراسات وجود روابط بين الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتغيّرات في مناطق الدماغ المرتبطة بالتحكم في الانفعالات.
ب- ضعف في مناطق معيّنة:
تشير الأبحاث إلى أن مناطق في الدماغ، مثل القشرة الجبهية الأمامية الظهرية الجانبية، تلعب دوراً وسيطاً بين العلاقات الاجتماعية، وخطر الإدمان الإلكتروني. ويرتبط انخفاض حجم هذه المنطقة بزيادة الإدمان.
كيف يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مع الحفاظ على الصحة النفسية؟
إن الاهتمام بالصحة العقلية يتعلق في المقام الأول بالاستماع إلى النفس.
1- حافظ على التوازن بين وقتك على الإنترنت وخارجه:
من الهام أن تتعلم كيف تحدُّ من وقتك الذي تقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لذا، حاول أن تبعد هاتفك من حين لآخر، وتعطّل الإشعارات، فهذا يتيح لك تخصيص وقت لنفسك من دون انقطاع. ولكلّ شخص حرية تحديد الوقت الذي يناسبه في تمضية الوقت على الشاشة.
2- اعرف حدودك واحترمها:
لكل شخص مساحته الخاصة على الإنترنت، فلماذا لا نجعلها مساحة للتعاطف مع الذات؟ على سبيل المثال، تجنب متابعة الحسابات التي تُشعرك بالسوء تجاه نفسك، وتوجَّه نحو تلك التي تُشعرك بالرضا. ولا تتردّد في حظر الحسابات المؤذية، أو إلغاء متابعتها. وإذا تعرضتَ للتحرش، أو التنمّر عبر الإنترنت، فلا تعِش المعاناة وحدك، بل تحدّث بذلك مع الآخرين.
3 - توخَّ الحذر عند نشر المعلومات:
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مصادر غنية بالمعلومات القيّمة، لكن هذه المعلومات ليست موثوقة دائمًا. وقد حان الوقت لنتعوّد على التحقق من المصادر قبل نشر أي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي قد يوصل إلى درجة الحزن والأسى، ثم القلق والاكتئاب.
4 - تجنّب المقارنات:
ما هو مؤكد اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تعكس الواقع في معظم الحالات، فغالباً ما نرى صورة مثالية ومُحسّنة لحياة الناس، لكن، قد يصعب لدى البعض المحافظة على ثقتهم بأنفسهم، والرضا بما قسم الله لهم، أمام الأجسام الرشيقة، والعائلات المثالية التي تعيش في منازل فاخرة في جنّات خلابة. لذا، لا بدّ من تجنب المقارنات، فقيمة المرء لا تعتمد على عدد المتابعين، على تيك توك مثلاً.
العلاقات ليست كلها سلبيات:
تُمثل وسائل التواصل الاجتماعي فرصة حقيقية لبناء المزيد من الروابط بين الناس، والتعبير عن الإبداع، وطريقا للتعليم والتعلم، ومشاركة الآخرين ما هو نافع ومفيد. وعند استخدامها بشكل صحيح، يُمكن أن تُساعد على توفير صحة نفسية سليمة، لكن، قد يكون للإفراط في الاستخدام آثاره السلبية في الصحة النفسية. فلنقل دائما :«هذا يُناسبني وذاك لا يُناسبني»، ولنستمع إلى أنفسنا لجعل وسائل التواصل أداة تفيد، ولا تدمِّر.
