احتفاء باليوم العالمي للتطوّع… «مكتبة محمد بن راشد» تعزز روح العطاء وتجسّد الهوية الإنسانية للإمارات
في كل مجتمع لحظات تبرق فيها الإنسانية بأجمل صورها، لحظات لا يصنعها المال، ولا تقاس بالكلمات، بل يولد فيها العطاء من قلب إنسان قرر أن يمدّ يده إلى آخر. هذا هو جوهر التطوع، فعل بسيط يزرع حياة في حياة، ويحوّل العطاء من مبادرة إلى ثقافة، خصوصا في دولة الإمارات، حيث يصبح التطوع أكثر من مجرّد مشاركة وقت، بل تجسيداً لهوية وطنية تؤمن بأن خدمة المجتمع بداية كل تنمية، وأن الإنسان هو محور البناء والنهضة.
فقد شهدت الإمارات، أخيراً، العديد من الفعاليات احتفاء باليوم العالمي للتطوع، حيث حضرت «كل الأسرة» احتفالاً نوعياً يجمع الإبداع بالمسؤولية المجتمعية، نظمته مكتبة محمد بن راشد، بالتعاون مع فريق سفراء الأمل التطوعي التابع لمركز الطارق للتأهيل والتوحد، و«لايف إيد هولدينغ»، ومركز الأمل للتأهيل والتدريب على العلوم السلوكية، ومؤسسة مليون و233352 لتنمية القدرات العقلية. وقد جاء الحدث ليبرز رؤية المكتبة في تحويل المعرفة إلى فعل، والفعل إلى تأثير يسهم في بناء مجتمع أكثر وعياً وتكاتفاً. كما حملت الأمسية مشهداً وطنياً مؤثراً بتواجد أبطال القيادة العامة لشرطة دبي وأسر الشهداء، وبينهم سلمان عيسى البلوشي، في لفتة تعبّر عن الوفاء لتضحيات لا تُنسى.
من جهته قدم المستشار طارق آل سيف، عبر شخصية افتراضية، توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير العمل التطوعي، والانتقال من الجهد الفردي إلى العمل المؤسسي القادر على إحداث أثر مستدام. بدوره أشار الدكتور محمد سالم المزروعي، عضو مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، خلال كلمته، إلى أن الفعالية تأتي امتداداً لجهود المكتبة في ترسيخ ثقافة التطوع كجزء من بناء الإنسان. وأوضح أن برامج المكتبة وأنشطتها المتنوعة ليست مجرّد منصات ثقافية، بل مساحات تُترجم فيها المعرفة إلى سلوك إيجابي يثري المجتمع، ويُعزز روابطه.
كما شهد «إكسبو التطوّع والابتكار» لحظات إنسانية نابضة، أبرزها عزف مؤثر للإماراتي محمد الأميري من أصحاب الهمم لأغنية «الله يا دار زايد»، وقصيدة وطنية ألقاها شاعر الهمم مسعود الأحبابي. وشارك اللواء الشيخ محمد عبدالله المعلا، بكلمة ملهمة أكد فيها أن التطوع جزء متجذّر في الهوية الإماراتية، يمارسه الفرد في البيت، والشارع، والعمل، وأن روح «الفزعة» تظل حجر الأساس في تماسك المجتمع.
وأثرت الفعالية مشاركة فتحية النظاري، أول متطوعة في الدولة، التي استعرضت تجربتها الممتدة في العمل الإنساني، وما زرعته في الأجيال الجديدة من شغف لخدمة المجتمع.
لوحات فنية إبداعية رسمها ذوو الهمم
وضم المعرض الفني الموازي للحدث 23 لوحة أبدعها فنانون متطوعون، أبرزت دور الفن في التعبير عن القيم الإنسانية، إلى جانب عرض للرسم الحي قدّمه متطوعون من أصحاب الهمم من جمعية الإمارات للأمراض النادرة، ومشاركات مؤثرة من مركز الطارق للتأهيل والتوحد، جسدت المعنى الحقيقي للمسؤولية المجتمعية بوصفها فعلاً حياً لا يُحكى فقط، بل يُمارس، ويتجسد.
رحلة تطوعية مع أطفال التوحد
فقد اختارت الفنانة التشكيلية دلال طالب، أن تجعل من موهبتها وسيلة للعطاء، فبدأت رحلة تطوّعية مع أطفال التوحّد، تستخدم فيها الرسم كنافذة للتعبير والهدوء، وتقول إنها كانت تضع الألوان أمامهم من دون قيود، لتكتشف مع الأيام كيف يمكن لفرشاة صغيرة أن تُحدث فرقاً كبيراً؛ طفل يجد في الرسم لغة بديلة، وآخر تتراجع نوبات توتره أمام الورقة البيضاء، وطفلة تبتسم بمجرد رؤية صندوق الألوان، وأن ما عاشته مع هؤلاء الأطفال كان أشبه برحلة شفاء مشتركة، فالرسم لم يساعدهم على التعلّم فقط، بل ساعدها هي أيضاً على اكتشاف عمق الفن حين يتحوّل إلى وسيلة لاحتضان الآخرين.
كما قدّم عدد من المتطوعين تجاربهم ضمن فقرة «قصتي مع التطوع» التي عكست قوة الأثر الذي يمكن للجهد الفردي أن يصنعه حين يتحول إلى رسالة حياة،.
بدورها استطلعت «كل الأسرة» آراء عدد من المتطوعين، وتجاربهم البارزة في هذا المجال.
التطوّع لمساعدة كبار السّن
تروي هناء سالم، متطوّعة في دعم كبار المواطنين، أن رحلتها مع التطوّع بدأت بمكالمة واحدة من مركز يهتم بكبار المواطنين، فقررت أن تجرّب. ولم تتوقع أن تلك الزيارات الأسبوعية ستغيّر الكثير في حياتها. وتبيّن إن حديث ساعة واحدة مع كبار السن يعلّمك أكثر مما تعلّمه كتب كثيرة؛ يفتح لك أبواب الحكمة، ويُشعرك بقيمة التواصل الإنساني. وتؤكد أن التطوّع بالنسبة لها هو جسر بين الأجيال، ومهمة نبيلة تعيد للإنسان إنسانيته، وتعيد لكبار المواطنين شعورهم بالعطاء والحضور.
المشاركة في فعل الخير
أما المتطوعة مريم، فأكثر ما يدفعها للاستمرار في العمل التطوعي هو ذلك الشعور العميق بالفخر عندما ترى أثر الخير الذي تصنعه الإمارات يمتد إلى كل من يحتاج إليه «أشعر بأنني جزء من قصة إنسانية أكبر منّي، قصة تبنيها دولتنا كل يوم بمبادراتها وعطائها. وحين أسهم ولو بجهد بسيط، أدرك أنني أشارك في صناعة أثر حقيقي، وأن الخير الذي نمنحه يعود مضاعفاً في وجوه الناس وابتساماتهم. التطوّع بالنسبة لي ليس مهمة… إنه انتماء».
التطوّع هو الطريق الأقرب لصناعة الأثر
كما يرى عبدالله المازمي، متطوّع في حملات البيئة والمبادرات المجتمعية، أن التطوّع هو الطريق الأقرب لصناعة الأثر الحقيقي، وأنه لا يحتاج إلى منصب، أو سلطة ليغيّر شيئاً. بدأت تجربته حين شارك في حملة لتنظيف الشواطئ، وكانت دهشته كبيرة حين رأى كيف تحوّل الجهد الجماعي البسيط إلى نتيجة ملموسة خلال ساعات فقط. ومنذ ذلك الوقت، أصبح جزءاً من مبادرات مختلفة، من إعادة تدوير إلى توعية مجتمعية.
هكذا أكّد «إكسبو التطوّع والابتكار» أن العمل التطوعي في الإمارات لم يعد مجرّد مبادرة موسمية، بل هو ثقافة راسخة تُمارس يومياً، وتكبر بتكاتف أفراد المجتمع ومؤسساته. فقد جمع الحدث بين الإبداع، والمعرفة، والإنسان، ليبرهن أن أثر العطاء يمتد حين يجد من يحتضنه، ويؤمن بقيمته. ومع تنوّع القصص والتجارب الملهمة للمتطوعين، بدا واضحاً أن الخير حين يُبذل من القلب يترك بصمته في كل مكان. وبين يدٍ تقدّم، وابتسامة تُزرع، ومبادرة تُطلق، تمضي الإمارات بثبات في ترسيخ نموذج فريد للتراحم المجتمعي، يجعل من التطوّع نهجاً للحياة، وأحد أهم دعائم نهضتها الإنسانية.
