منذ زمنٍ طويل قالت «فيرجينيا وولف»: «ليس ما نراه هو ما يهم، بل كيف نراه»، لتختصر فلسفة الحياة البسيطة، فالأشياء الصغيرة لا تحتاج إلى أن تكون مذهلة، أو غالية الثمن، بل تحتاج إلى عين تعرف كيف تراها، تماماً كما قال الإمام الشافعي «عين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا».
إن رائحة الخبز الطازج في الصباح، أو في يوم شتوي بارد، كفيلة ببعث الدفء في قلب مكدود، وصوت طفل يضحك من بعيد سبب في استعادة الإيمان بحلاوة النقاء، وكل هذه التفاصيل الصغيرة قد لا تبدو مؤثرة، أو لا تغيّر العالم فعلاً، لكنها تغيّرنا نحن من الداخل، حيث تسكن الروح، وتحتاج إلى لمسة من لطف كي تستمر، فلم يكذب من قال إن الأشياء الصغيرة أكثر صدقاً ودفئاً، لأنها تملأ القلب أكثر من أي شيء آخر.
وتروي إحدى النساء عن جدّتها أنها كانت تضع وردة على نافذتها كل صباح، حتى بعد رحيل زوجها بخمس وعشرين سنة، فسألوها مرة: «لمن تضعينها؟»، فابتسمت، وقالت: «لليوم الجديد، علّه يكون أجمل». تلك الوردة قد لا تعني شيئاً في عرف العالم، لكنها كانت بالنسبة إليها لحظة أمل، وحديثاً بين قلب متعب وزمن لا يتوقف، ولا يهتم بما يدور حوله من أحداث.
وهناك قصة يابانية قصيرة عن عامل نظافة في محطة قطار بطوكيو، كان يبدأ يومه بمسح المقاعد بابتسامة، وهو يتمتم مخاطباً إيّاها برفق: «شكراً لأنكم حملتم أجساد المسافرين»، حتى ظنّ الناس أنه غريب الأطوار، لكنه قال لهم في مقابلة تلفزيونية، بعد سنوات: «حين تشكر الأشياء، تصبح الحياة أجمل وأسهل».
الأشياء الصغيرة، إذاً، ليست مجرّد تفاصيل، بل شكل من أشكال الامتنان. فحين نمسك فنجان القهوة، لا نمسك به لمذاقه فقط، بل لأنه أصبح طقساً يومياً يذكّرنا بأننا ما زلنا نملك وقتاّ لأنفسنا. وحين نغلق الهاتف لنستمع إلى صمت الغرفة، نحن في الحقيقة نصغي إلى ما أهملناه طويلاً، إلى ذواتنا التي مضى زمن طويل لم نتواصل معها كما يجب.
وكما قال جبران خليل جبران يوماً: «إنكم تفرحون باللقاء، ولكنكم لا تعرفون أنكم في الفرح باللقاء تلتقون بأنفسكم».
كذلك هو الحال مع الأشياء الصغيرة، فنحن لا نفرح بها لأنها عظيمة، بل لأنها تعيدنا إلينا.
في أحد مقاهي باريس، كتب الشاعر الفرنسي «جاك بريفير» مرة على منديل ورقي: «إن الوردة لا تقول شيئاً، لكنها تجعل العالم أجمل»، وهذه هي فلسفة الأشياء الصغيرة: إنها تصنع الفرق بصمت، كما تفعل يد أمّ تمرّ بحنانها على رأس طفلها قبل النوم، أو رسالة «اشتقت لك» تأتي في لحظة غير متوقعة.
وكلّما كبر الإنسان، أدرك أن الحياة ليست سلسلة من الانتصارات، بل من اللحظات الخفية التي لم ننتبه لها في وقتها، كنظرة امتنان من غريب، أو ظلّ غيمة يخفف حرارة النهار، أو شمعة تضيء حين ينقطع التيار، وكلها تفاصيل تهمس قائلة: «ما زال في العالم ما يستحق انتباهنا».
وحين نتعلّم الإصغاء إلى تلك الهمسات، سنكتشف أن الأشياء الصغيرة ليست صغيرة أبداً، بل هي مفاتيح النجاة اليومية، وذاكرة الضوء في عتمة العالم.