أرسلت لي زميلة دراسة سابقة، روسية الجنسية، منشوراً على «الواتساب»، تصدّرته العبارة التالية: «عميق جداً... وصحيح جداً!». كنتُ سأقرأ ما بعثته الزميلة حتى لو لم تتصدّره هذه العبارة، ولكن المؤكد أن العنوان حفّزني على أن أشرع في قراءته فوراً، ربما بدافع الفضول في التعرف إلى أوجه العمق والصحّة فيه. لن أعطي جواباً، بالنفي أو الإيجاب، حول ما إذا كان مضمون المنشور هو فعلاً كذلك، أم لا، وسأبدأ بتقديم ترجمة لمحتواه أولاً، لكونه مكتوباً بالروسية، وأحثكم على أن تدلوا بدلوكم حوله.
يبدأ المنشور بالقول: «عندما دخل التلفزيون منزلي، نسيتُ كيف أقرأ كتاباً، عندما توقفت السيارة أمام باب منزلي، نسيتُ كيف أمشي، عندما أصبح هاتفي المحمول ملازماً ليَدي، نسيتُ كيف أكتب رسالة، عندما اقتنيت حاسوباً، نسيتُ كيف أكتب، عندما أصبح في بيتي مكيّف للهواء، توقفتُ عن البحث عن الظل والنسيم الخفيف تحت الشجرة، عندما أصبحتُ أعيش في المدينة، نسيتُ رائحة الأرض الرطبة، بعد أن ألفت استخدام البطاقات في شراء حوائجي، نسيتُ القيمة الحقيقية للمال، مع ظهور الروائح المصنعة، نسيتُ رائحة الزهور الطازجة، مع انتشار الوجبات السريعة، نسيت مذاق أطباق الأكل التقليدية، ومع ظهور «الواتساب» فقدتُ مهارة التحدث. وفي المجمل، بقيتُ في عجلة من أمري. نسيت البطء والتمهّل».
لم ينتهِ محتوى المنشور بعد. هناك تتمة، جاء فيها: «عندما نموت تبقى أموالنا في البنك، والمفارقة أننا، ونحن أحياء، لا نرى ضرورة لصرفها، فتبقى، من بعدنا، مودعة في البنوك، لتكون من نصيب سوانا، كما حدث مع رجل أعمال صيني بارز، مات وترك لأرملته 1.9 مليار دولار. تزوجت الأرملة من سائق الزوج المرحوم، وحينها قال السائق: «لقد ظننتُ لسنوات أنني أعمل لدى مديري... ولكن الآن أدركتُ أنه كان يعمل لديّ!».
لا يزال للحديث بقية. من الباعث على السخرية، حسب المنشور إيّاه، أننا نقتني هاتفاً باهظ الثمن، لكننا لا نستخدم 70% من خاصيّاته، ونقتني سيارة فاخرة، لكن 70% من ميزاتها عديمة الفائدة، ونشتري فيلا فاخرة، و70% من مساحتها فارغة، وفي خزائن ملابسنا 70% من الملابس التي لا نرتديها. بائعو الهواتف والسيارات والفلل والملابس، وسواهم، هم الرابحون، لأن الكثير مما نشتريه منها يمكن الاستغناء عنه، وحتى العيش بسعادة من دونه.
انتهى المنشور، «الهام» بوصف من أرسلَته، بنصائح يمكن وصفها بالمعتادة، في مقدمتها الدعوة إلى الاهتمام بالصحة، بدل الجري وراء المظاهر، فكلها زائلة، لكن الصحة هي من يهبنا عمراً أطول نستمتع به بنِعم الحياة، فمن «الأفضل أن تعيش طويلاً بدلاً من أن تمتلك الكثير»، وفي تفاصيل الاهتمام بالصحة تقرأ حثّاً على شرب الماء، حتى لو لم نشعر بالعطش، وعلى المواظبة على إجراء الفحوصات الطبية، حتى لو كنا نشعر بأننا في صحة جيدة، والاعتناء بأجسامنا وعقولنا مهما كنّا مشغولين، وثمّة دعوة أيضاً إلى القناعة بما نملك، حتى لو لم يكن كبيراً.
ما استوقفني في المنشور ليس ما خلص إليه من نصائح، وإنما ما يثيره محتواه في الذهن عمّا إذا كانت التكنولوجيا قد أفسدت أوجه الدّعة، والطمأنينة، والمتعة، في حياتنا، وعلى هذا يترتب سؤال هام: هل يمكن تصوّر حياتنا اليوم من دون التلفاز، والسيارة، والمكيّف، والحاسوب، والهاتف الذكي المحمول، وسواها من اختراعات جعلت حياتنا أسرع، وأسهل، وأيسر؟
نصيحة واحدة لا جدال حولها اختتم المنشور بها تقول: «الأهمّ من كل ذلك... خصّص وقتاً لمن تحب».