
في زمن يشهد تحوّل السياحة إلى صناعة رقمية متسارعة، تتنافس فيه الفنادق الفاخرة والمنصات الذكية على خطف أنظار المسافرين، تبرز بيوت الضيافة في لبنان مساحات بديلة، ودافئة، وإنسانية.. إنها ليست خياراً عشوائياً، بل تعبير حقيقي عن الحنين إلى الأصالة، وعن رغبة الناس في اختبار المعنى الحقيقي للضيافة.


يشهد لبنان تنامي السياحة الداخلية، وتحوّل أنظار المقيمين والمنتشرين والسياح، العرب والغربيين، إلى أنواع جديدة من النشاطات والاهتمامات التي تشمل السياحية الدينية، والبيئية، والتراثية، والمونة، والمطبخ اللبناني، وتسهم في التنمية الاقتصادية، وتشجيع المشاريع على المستوى المحلي، من شاطئ البحر، إلى أعالي الجبال، وعلى مساحة لبنان.


وفي هذا الزمن، يتوقف المتابعون عند الإقبال الكبير على بيوت الضيافة، ورغبة أكثرهم في معاودة هذه التجارب، وتشجيع الآخرين على خوض غمارها. ولعله ذات دلالة كبيرة أن يقول، في هذا الإطار، الناشط السياحي والبيئي فيليب جرمانوس، إن «بيوت الضيافة تشكل، مجازاً، بوابة إلى روح لبنان»، مؤكداً أنها «ليست نقاط استقبال فقط، بل محطات حياة، وحكايات تُعاش لا تُروى».

وحسب جرمانوس، فإن الزائر «حين يدخل أحد بيوت الضيافة في لبنان، لا يستقبله موظف استقبال بابتسامة بروتوكولية، بل أمّ أو جدّة، بوجه دافئ، ويدين تشعّ منهما الحياة. هذه ليست رفاهية، بل كرم فطري يخرج من القلب»، مضيفاً أن بيوت الضيافة تنتشر كمساكن مرمّمة في القرى والجبال، من الشمال إلى الجنوب، ومن أعالي الجبال إلى شاطئ البحر، بمئات العناوين، ويؤكد أن معظم البيوت مصمّمة لتستقبل من ضيفين إلى 10 ضيوف، وأحياناً أكثر بقليل، ما يضمن دفء اللقاء، وخصوصية التفاعل.


بيوت الضيافة... تنعش الاقتصاد وتحافظ على التراث
وحسب جرمانوس أيضاً، فإن بيوت الضيافة لا تقتصر على السياحة فقط، بل تتعداها إلى تحريك العجلة الاقتصادية في المناطق الريفية، فكل بيت ضيافة يشغّل سيدات في المطبخ، وحرفيّين، ومزارعين، وأدلّاء سياحيين محليين، ويخلق منظومة اقتصادية دائرية، مضيفاً «قد لا يدرك البعض أن بيت الضيافة ـ في بشري مثلاً أو في أي منطقة أخرى في لبنان ـ يؤمّن فرص عمل لـ10 أشخاص بشكل مباشر، أو غير مباشر، من الطاهي إلى منظّم الجولات البيئية، إلى الشخص الذي يوفّر الأعشاب البرية الطازجة كل صباح. إضافة إلى أن هذه البيوت تحافظ على التراث العمراني والموروث الشعبي، عبر ترميم المنازل القديمة بدل هدمها وبناء مجمّعات حديثة، فمن جبال إهدن وبشري ودوما وانفه والبترون شمالاً، إلى أعالي جبيل والعاقورة وسائر قرى كسروان والمتن وبعبدا وعالية والشوف في جبل لبنان، وصولاً إلى راشيا وزحلة وكفريا في البقاع، مروراً بـجزين وكفررمان ومرجعيون وزفتا وصور في الجنوب… تنتشر بيوت الضيافة فسيفساء تعكس غنى لبنان الطبيعي، والثقافي، والعمراني».


ويشير جرمانوس إلى أن «لكل بيت طابعه، فبعضها بيئي قائم على الاستدامة، وبعضها فنّي تملؤه لوحات وأعمال حرفية، فيما تبرز بيوت ذات طابع ديني أو روحاني، تقام فيها ورش تأمّل ويوغا»، موضحاً أن «هذا التنوّع يجعل كل إقامة تجربة فريدة لا تشبه الأخرى، حتى لو تكررت المدينة أو المنطقة»،لافتاً إلى أنه «في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تحوّلت بيوت الضيافة إلى خيار واقعي ومنطقي للكثير من اللبنانيين المقيمين».


ويؤكد جرمانوس أن «الطلب المحلي على هذا النوع من الإقامة في تصاعد مستمر، فاللبناني الذي اعتاد السفر إلى الخارج بات يبحث عن مساحة راحة وهدوء داخل بلده، وبيوت الضيافة توفّر له ذلك بكلفة مقبولة، وتجربة أصيلة»، ويضيف «هناك نسبة لا يُستهان بها من الزوار هم مغتربون لبنانيون، يعودون إلى الوطن لاكتشافه بمنظار جديد، وهؤلاء يسعون وراء حكاية تروي لهم من هم، وتظهر لهم جذورهم، وتربطهم بالأرض والذاكرة»...إضافة إلى أن هذه البيوت أصبحت مقصداً للكثير من العرب والأجانب.


تجربة سياحية متكاملة... العيش مع الأهالي
ويلفت جرمانوس إلى أن الكثير من بيوت الضيافة اليوم لا تكتفي بتوفير إقامة ووجبة طعام، بل باتت تقدّم ما أسماها «تجربة متكاملة»، وتشمل:
- ورش طبخ تقليدي لتحضير الكبة والمونة والمربّيات.
- أنشطة زراعية مثل قطاف الزيتون والعنب واللوز.
- جولات بيئية في الجبال والغابات برفقة أدلّاء محليين.
- مهرجانات قروية وأمسيات موسيقية تقام في الساحات.
- جلسات يوغا وتأمل في الطبيعة.
- ترميم منازل أو معامل قديمة من ضمن ورش تعليمية.
- ونشاطات مؤاتية في المناطق الساحلية والقريبة من البحر.
ويقول جرمانوس إن «ما يضفي على هذه التجارب قيمة أن الزائر لا يبقى متفرّجاً، بل يصبح فاعلاً، وجزءاً من اليوميات، ويتعلّم من العيش المشترك مع الأهالي».


وعلى الرغم من هذا المشهد الواعد، يشير جرمانوس إلى أن «تطوير هذا القطاع ما زال يواجه تحدّيات، أبرزها غياب الإطار التنظيمي الدقيق لتصنيف واعتماد بيوت الضيافة، وضعف الدعم اللوجستي والمالي من الدولة والبلديات، مع الحاجة إلى تدريب أصحاب البيوت على إدارة الضيافة، والتسويق، والترويج الرقمي»، ولكنه يلفت إلى «مبادرات بدأت تظهر، أبرزها منصات إلكترونية محلية مثل «ضيافة» التي تسهّل حجز البيوت، وتربط الزائر مباشرة بالمضيف، وتوفّر إمكان البحث حسب النشاط، والموقع، والسعر، كذلك بدأ عدد كبير من أصحاب البيوت باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة قصصهم ويومياتهم، ما يعزّز القرب والشفافية مع الجمهور».


السياحة التراثية والبيئية... خيار استراتيجي للبنان
ويرى جرمانوس أن «التحوّل نحو السياحة التجريبية والسياحة المستدامة لم يعد ترفاً، بل ضرورة وطنية. فلبنان، بما يملك من تنوّع طبيعي وثقافي، مؤهّل ليكون وجهة إقليمية رائدة في هذا المجال»، مشدداً على أن «قطاع بيوت الضيافة قادر على استقطاب شرائح إضافية من السُيّاح، العرب والأجانب، الباحثين عن تجارب إنسانية حقيقية»، مؤكداً أن «دعم هذا القطاع يُسهم أيضاً في الحد من النزوح من الريف إلى المدينة، وفي خلق فرص عمل شبابية، وإعادة إحياء المهن التقليدية والحرفية التي توشك على الاندثار».
واذ يؤكد جرمانوس أن «سياحة بيوت الضيافة ثابتة بفعل التنوع الثقافي والطبيعي في لبنان، وحسن الضيافة المتأصل عند اللبنانيين»، فإنه ينصح الزوّار، سواء من الداخل أو الخارج، بأن يختاروا بيوت الضيافة «دعوا الطبيعة تحتضنكم، والقصص تُروى على مسامعكم، لأن في كل بيت ضيافة حكاية... وفي كل حكاية وجه من وجوه لبنان الحقيقي».
اقرأ أيضاً:
- بلدات جبل لبنان.. مهرب الباحثين عن البرودة والجمال في عز الصيف
- صيف سياحي مشهود.. لبنان ينتظر عشاق الطبيعة والجبل والمهرجانات
* إعداد: شانتال فخري