في كونشيرتو البيانو، يعبّر الملحن إدفار جريج عن عظمة جمال الطبيعة النرويجية، في أنغام فريدة تترجم الحنين إلى الوطن، برومانسية وعاطفة رائعتين. فما الذي تحتفظ به النرويج اليوم من ذلك الحلم الجميل، وهل عزفت ألحاناً أخرى على أوتار الزمن؟
خلف سواحل نحتتها الأمواج والرياح، ما زالت النرويج تستأثر بمناظر طبيعية ساحرة؛ جبالٌ في الشمال تمتد لمئات الكيلومترات، بارتفاع يصل أحياناً إلى أكثر من 1800 متر، وتضاريس برية وعرة تشكل لوحة بيئية خلّابة، تتماهى فيها الأنهار الجليدية، والمضائق، والهضاب، في إطار طبيعة قاسية، ومهيبة.
فبعد رحلة في قلب الأساطير الإسكندنافية الرائعة، يمكن سلوك مسار ترولستيجن، الذي أصبح الآن طريقاً سياحياً وطنياً، والذي يتميّز بمنحدراته الكثيرة، ومناظره الطبيعية الساحرة، ثم الوصول إلى بلدة أندالسنيس الصغيرة. وهناك، كما في منطقة المضيق البحري، وفي كل جزيرة، وفي كل قرية، تمتزج التقاليد بالثقافة والتاريخ، في إطار فلسفة حياة تحرص على الحفاظ على الطبيعة في حالتها البرية.
المضائق البحرية: مرآة الهوية النرويجية
تُجسّد النرويج، أرض المضائق البحرية المهيبة، هوية راسخة الجذور في الطبيعة، يُحيط بها المحيط الأطلسي، الذي تطلّ عليه مدن كبرى مثل أوسلو، وبيرغن، وتروندهايم، متعايشة مع مناظر طبيعية شاسعة وخلّابة، في وئام وانسجام، ضمن علاقة حميمة مع البيئة، تجسد جوهر الروح النرويجية المعاصرة.
ولدى النرويجيين، ورثة تقاليدهم العريقة، احترام عميق لأرضهم وبحرهم، في ثقافة تُقدّر التوازن، والاعتدال، والحفاظ على البيئة. ويتجلى هذا الالتزام البيئي من خلال سياسات طموحة، وأسلوب حياة مستدام، الشيء الذي يجعل من النرويج نموذجاً للتنمية المسؤولة.
وبين الصمت الرهيب في الغابات، والأضواء الشمالية الممتزجة بوهج شمس منتصف الليل، تبدو الطبيعة في النرويج هشة وقوية في الوقت ذاته، فهي كما المرآة تعكس الانسجام العميق بين الإنسان وبيئته.
قطار الساحل السريع... كنز وطني
على مدى قرون، ظل شمال النرويج معزولاً عن المملكة الإسكندنافية، بسبب المناخ القاسي، وانعدام طرق الوصول إليه، وأيضاً بسبب طول ليالي القطب الشمالي. وفي أوائل صيف عام 1893، انطلق الكابتن ريتشارد ويذ البحار الجريء من ميناء تروندهايم إلى هامرفست، وهي بلدة صغيرة تقع خارج الدائرة القطبية الشمالية، فاتحاً بذلك طريقاً بحرياً جديداً يسهِّل نقل الأشخاص والبضائع، ليصبح بطلاً وطنياً استطاع أن يكسر جدار العزلة الشديدة في شمال البلاد.
وتبعت سفينة ريتشارد سفن أخرى لتفتح المنطقة الشمالية من البلاد كلياً. واليوم، تشكل سفينة كوستال إكسبريس حلقة وصل يومية بين مدينة بيرغن الجنوبية السياحية، وجزيرة كيركينيس الشمالية، بالقرب من الحدود الروسية.
بوابة القطب الشمالي
في أواخر القرن التاسع عشر، شهدت مدينة ترومسو ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق، مع تكثيف صيد الفقمات في المناطق الشمالية. ولعقود، كانت السفن تعود محمّلة بلحوم الرنة والفقمات، وفراء القاقم ( ابن عرس الثلجي)، والدببة القطبية، وجلود الفظ المستخدمة في صنع الحبال.
واليوم، تحتضن المدينة أقصى جامعة شمالية، وأكبر مركز للدراسات القطبية في العالم. ولا تزال نقطة انطلاق البعثات القطبية الكبرى إلى سفالبارد، وغرينلاند.
وراء المناظر الطبيعية الجبلية والبرية المحيطة بعاصمة القطب الشمالي، ينفتح البحر على أرض النيران، أرض السامي التي تشتهر بنمط الحياة التقليدي لشعب السامي، حيث ألهمت أضواء الشفق الشمالية لقرون عدة خيال الشعوب الإسكندنافية القديمة، وروت بعض الأساطير أن العفاريت وكثيراً من الناس قد فقدوا أرواحهم وهم يرقصون ويلعبون!