10 أغسطس 2025

د. باسمة يونس تكتب: أسير للماضي أم حالم بالمستقبل؟

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

مجلة كل الأسرة

بعض الناس يظن أنّ تمجيد الماضي نوع من الوفاء، فيتغنّى بما كان حتى يشيخ قلبه قبل أوانه. وبعضهم يرى أن الحديث عن الغد نوع من الطموح، فيستهلك وعوداً لا يسعى لتحقيقها، بل لا يملك وقتاً لتحقيق نصفها، أو أقلّ قليلاً. ولعلّ من أعمق الفروق بين الناس ذلك الخط الرفيع الذي يفصل بين من يظل أسيراً للماضي، ومن يظل عالقاً بحلم المستقبل.

ومن خلال تأمّل وجوه البشر نستطيع رؤية هذا الفرق يطلّ من عيونهم، في العين الأولى حنين ثقيل يثقل الخطوة، ويشدّ الروح إلى الوراء، وفي الأخرى بريق توقع يُلهب القلب، ويقلق النوم. والذي يعيش في الماضي يقتات الذكريات، يحفظها مثل كنز دفين، يعود إليها كلما أعياه الحاضر، يروي حكاياته القديمة بأدقّ تفاصيلها، كأن الزمن توقف عندها، ولم يكد يبرحها، يحن إلى وجوه رحلت، وإلى أيام يراها أكثر صفاء، وربما يعيد سرد مآثره، أو أوجاعه، ليبرّر حاله اليوم. هو مثل من يسكن بيتاً قديماً متهالكاً، لكنه يرفض ترميمه، أو مغادرته، يأنس لتشققه لأنه يعرفه، ويخشى الجديد لأنه غريب عليه. هذا الماضي يمنحه، حسب ظنه، هوية وأماناً زائفاً، لكنه في الوقت نفسه لا يدرك أنه يقيده، ويعميه عن الفرص.

ونرى في التاريخ أمثلة كثيرة على هؤلاء، كمن ظلّ يروي بطولات قبيلته، أو قومه، ولا يرى انكساراته، أو الحاجة إلى التغيير، أو مثل بعض الملوك الذين رفضوا التجديد واكتفوا بمجدهم القديم، حتى زال ملكهم. في المقابل، هناك من لا يعيش إلا في الغد، يحرق يومه شوقاً لما لم يأتِ بعد، يخطّط، يحلم، يعِد نفسه بالإنجازات ويبدو حديثه مفعماً بالتوقعات، لكن عينيه لا تبصران ما حوله. إنه يرى حاضره محطة انتظار مملّة، لا قيمة لها سوى أنها طريق إلى المستقبل، وهو أشبه بمن يبني قصراً في الهواء، حجراً فوق حجر، لكنه لا يطأ أرضاً صلبة. وهؤلاء نجد لهم أمثلة فيمن أسرفوا في خططهم البعيدة، كالمخترعين الذين قضوا أعمارهم في تجارب لم تكتمل قط، أو حتى من ضاع في أحلام السفر والغنى، من دون أن يعمل يوماً لتحقيقها. الفرق بينهما وبين العاقل أن هذا الأخير يعرف كيف يحترم الماضي، ويتعلم منه، ويخطط للمستقبل من دون أن ينسى أن اللحظة الوحيدة التي يملكها هي الحاضر. الماضي ليس عدواً ينبغي نسيانه، بل معلم يجب الإصغاء إليه. والمستقبل ليس وهجاً نخدع به أنفسنا، بل هدف نبنيه كل يوم بجهد، ووعي، وصبر، على ألا ننسى الماضي والحاضر، ونتجاوزهما.

إن أكثر الناس نجاحاً في الاستفادة من حياته والاستمتاع بها من يجعل ماضيه جذراً يثبته، ومستقبله غصناً يشده إلى السماء، وحاضره جسداً ينتج للغد. وفي النهاية، هذا هو الفرق الحقيقي بين الناس، فهناك من يقيم في الأمس فلا يرى اليوم، ومن يسكن الغد فلا يحيا اللحظة، وهناك من يدرك أن الزمن كله ملك من يعرف كيف يعيش حاضره، بحكمة الماضي وشغف المستقبل معاً. هؤلاء هم من يصنعون الفرق، من يزرعون اليوم ليحصدوا غداً، من دون أن ينسوا أن الأرض التي يحرثونها اليوم إنما هي إرث من عبروا من هنا قبلهم، وأن الغد سيحمله من يأتون بعدهم.