
الابتعاث ليس مجرّد رحلة تعليمية إلى الخارج، بل هو تجربة حياتية متكاملة تُعيد تشكيل الشخصية، وتفتح آفاقاً أوسع للفكر، وتُنمّي مهارات الاستقلالية، والمسؤولية، والانفتاح على الثقافات الأخرى. يعود الطالب المبتعث بشخصية أكثر نضجاً وتمكيناً، محمّلاً بالعلم والخبرة والرؤية العالمية، ليُسهم بفعالية، في دعم تطلعات الدولة، ويسير بخطى واثقة نحو تحقيق أثر وطني مستدام.

بدورها، تواصل دولة الإمارات ترسيخ مكانتها كداعم أوّل للتعليم النوعي والاستثمار في الإنسان، حيث تولي الابتعاث الأكاديمي أولوية قصوى، إيماناً منها بأن أبناءها هم الثروة الحقيقية، ومحور التنمية الشاملة والمستدامة. وقد جاء تنظيم «ملتقى الطلبة المبتعثين لعام 2025» تحت شعار «من تعليم عالمي، إلى أثر وطني»، ليعكس التزام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتوفير كل مقومات النجاح لأبنائنا وبناتنا، قبيل انطلاق رحلتهم الأكاديمية، وليكون منصة للإعداد والتحفيز، تنسج خيوط المستقبل بكفاءة، وتزرع في نفوس الطلبة الثقة بأنهم سفراء وطنهم، وعماد مستقبله، وللإجابة عن مختلف استفساراتهم المتعلقة بالسفر، والسكن، والإجراءات الأكاديمية والإدارية، والجهات الداعمة لهم في بلد الابتعاث. كما يوفّر الملتقى منصة تفاعلية للتواصل مع ممثلي الوزارة والملحقيّات الثقافية، والخبراء، لضمان انتقال سلس إلى الحياة الجامعية في الخارج.

السفارات الإماراتية في الخارج.. أهل للطلبة المبتعثين
من جانبها، أوضحت الطالبة خديجة علي، مبتعثة في كندا لدراسة علم النفس، أن تجربة الابتعاث التي تخوضها تُعد من أجمل التجارب، لما تحمله من دروس حياتية وتحدّيات تصقل الشخصية، مشيرة إلى أن الغربة والطقس القاسي صقلا فيها الصبر والإصرار، وأن الطبيعة الكندية ساعدتها على التأمل والتركيز. وأضافت أن اختيارها لكندا جاء بتشجيع من والدتها، وأنها تدرس في جامعة طبية متخصصة، ضمن بيئة تعليمية ملهمة، حيث يحظى شباب الإمارات بتقدير كبير من الشعب الكندي.
كما أشادت بدور السفارة الإماراتية في كندا، التي تبقى على تواصل دائم مع الطلبة، وتقدم دعماً يشبه دعم الأهل، ما يمنحهم شعوراً بالأمان والانتماء طوال فترة ابتعاثهم «هذا الاهتمام يعكس مدى التزام دولتنا بأبنائها، ويجعلنا أكثر حرصاً على أن نكون على قدر هذه الثقة، وأن نعود إلى الإمارات ونحن أكثر نضجاً، وجاهزية لخدمة الوطن».
وتختم خديجة حديثها برسالة للمبتعثين الجدد: «لا تخافوا ولا تترددوا. ابتعاثكم هو ثقة عظيمة من دولتكم بكم، فاستغلوها بأقصى قدر ممكن، وتعلّموا، واكتسبوا المهارات والخبرات، وكونوا سفراء حقيقيين للإمارات في الخارج. والأهم، عودوا إلى الوطن وأنتم محمّلون بالعلم والمعرفة، لتردّوا له الجميل، وتنقلوا ما تعلمتموه لخدمة مجتمعه ومستقبله».

المبتعث الإماراتي قائد في نظر الغرب
أما الطالب عبدالرحمن عبدالعزيز، المبتعث إلى الولايات المتحدة لدراسة الماجستير في الهندسة النووية، فقد لفت إلى أن اختياره لهذا التخصص جاء بدافع الشغف والإيمان بأهميته، رغم ما كان يسمعه من آراء تُشكك في توفر فرص العمل فيه داخل الإمارات، وأضاف: «الهندسة النووية قطاع معقّد ودقيق، لكنه يشهد تطوراً متسارعاً على مستوى العالم، وفي الإمارات أيضاً، حيث بات يوفر وظائف واعدة، وكفاءات وطنية مؤهلة، بخاصة مع المشاريع الكبرى، مثل محطات الطاقة النووية السلمية التي نُفذت في الدولة».
وعلى الصعيد الشخصي، أشار عبدالرحمن إلى أن الطلبة المبتعثين قد يواجهون في البداية تساؤلات من بعض أفراد المجتمع في دول الابتعاث، تتمحور حول صورة الرفاهية المرتبطة بالشباب الإماراتي، وهي صورة تشكّلت أحياناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي «لكن هذه النظرة تتغير مع الوقت، حين يكتشفون أننا شباب طموح ومجتهد، نحمل تجربة وطنية رائدة، ونمثل دولة لها سمعة رائعة عالمياً، ويعتبروننا نموذجاً قيادياً في مجالات عدّة، ويتطلعون إلى التعرّف إلى تجربتنا، والاستفادة منها».

تحلم بصناعة علامة إماراتية في فرنسا
أما الطالبة فاطمة العامري، المبتعثة لدراسة تصميم الأزياء في باريس، فأوضحت أن تجربة الابتعاث إلى فرنسا فتحت أمامها آفاقاً واسعة في مجال إبداعي لا يُعد من التخصصات المطلوبة بشدة في الإمارات، حالياً، لكنها تؤمن بأنه يحمل فرصاً كبيرة لخدمة الوطن مستقبلاً، من منظور مختلف. وأضافت: «أطمح إلى تأسيس علامة أزياء إماراتية بفكر فرنسي، تمزج بين الأصالة والابتكار، وتحمل الطابع المحلي بروح عالمية. إقامتي الطويلة في باريس جعلتني أفكر خارج الصندوق في كل ما أقدمه، وأتعلّم كيف أوازن بين الانفتاح الثقافي والحفاظ على هويتي، وأريد أن أعود إلى بلدي بمشروع فني يعكس هذه التجربة، وينقل صناعة الأزياء إلى مستوى جديد».
تطوير الخطاب الثقافي في الإمارات
تؤكد الطالبة مريم خليفة الشحي، التي تخرّجت، أخيراً، في برنامج الماجستير في دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولمبيا، إن تجربتها الأكاديمية كانت غنية على المستويين، المعرفي والشخصي، إذ أتاحت لها التعمّق في تخصص نادر وهام، لا سيما في ظل توجّه الأغلبية نحو العلوم التطبيقية، وقالت «أنا شغوفة بالأدب العربي، وأرى أنه بحاجة إلى مزيد من المتخصصين في الإمارات، لتعزيز حضوره، وفهم أبعاده الثقافية والتاريخية. لذلك كان اختياري لهذا التخصص نابعاً من إيماني بدوره المحوري في بناء الهوية وتطوير الخطاب الثقافي، وقد اخترت الدراسة في كولمبيا تحديداً لأفهم كيف ينظر الغرب إلى الأدب العربي، وما هي مكانته الحقيقية في سياق الدراسات الإقليمية. كما تعلمت اللغة الفارسية ما أضاف إليّ بعداً معرفياً جديداً، فالدراسة في كولمبيا فتحت لي أبواب البحث الأكاديمي الجاد، ودرست على يد نخبة من كبار العلماء في هذا المجال، الأمر الذي صقل قدراتي البحثية».

دعم الأهل هام في الأشهر الأولى من الابتعاث
وأشارت نود محمد، المبتعثة إلى أستراليا لدراسة الهندسة الكهربائية، إلى أن دعم الدولة وتشجيعها للطلبة المتفوقين على خوض تجربة التعليم في الخارج، كانا من أبرز الدوافع التي شجعتها على اختيار الابتعاث، مؤكدة أن هذه الفرصة الثمينة تعكس ثقة القيادة بطموحات شبابها «كنت مترددة في البداية، لكن رؤية أختي وهي تخوض تجربتها الدراسية في بريطانيا ألهمتني كثيراً، وجعلتني أؤمن بأن الابتعاث ليس وسيلة للتعلم فقط، بل فرصة لاكتشاف الذات وبناء مستقبل مختلف، وأرى أن دور الأهل أساسي في دعم قراري، وتشجيعي على الاستقلال والاعتماد على نفسي، وطمأنتي بأن الغربة جزء هام من التجربة، وأن مواجهة ثقافة جديدة ستصقل شخصيتي، وتعزز نضجي».

نجاح البرنامج في تحقيق أهدافه التعليمية والتنموية
وقد أكد الدكتور محمد المعلا، وكيل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، خلال كلمته، أن الابتعاث يُعد من أبرز الأدوات التي تعتمدها الدولة للاستثمار في الإنسان، بوصفه المحرك الحقيقي للتنمية. ولفت إلى أن هذه المرحلة تمثل منعطفاً هاماً في حياة الطالب، إذ تُسهم في إعداد جيل من الكفاءات الإماراتية المؤهلة علمياً، وبلغ عددهم 592 طالباً وطالبة، موزعين على أكثر من 115 مؤسسة تعليمية رفيعة المستوى في 22 دولة حول العالم، بينما بلغ عدد خريجي برنامج الابتعاث للعام الأكاديمي 2024-2025 نحو 187 خريجاً، ما يعكس نجاح البرنامج في تحقيق أهدافه التعليمية والتنموية.
وأشار إلى أن ملتقى الطلبة المبتعثين الجدد ليس مجرّد فعالية تعريفية، بل هو محطة انطلاق حقيقية نحو رحلة معرفية ومهنية واعدة، تهدف إلى تمكين الطلبة من بناء مستقبل مهني متميز يعود بالنفع عليهم، وعلى مجتمعهم، مؤكداً حرص الوزارة على تزويد الطلبة بكل الأدوات والإرشادات التي تضمن بداية قوية ومتكاملة في مؤسسات التعليم العالمية.