28 يوليو 2025

رحلة في قلب الشوف اللبناني.. بين الأزر والصنوبر والقصور والينابيع

فريق كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

يشكّل قضاء الشوف، المتجذر في قلب جبل لبنان، فسيفساء متنوّعة من الطبيعة، والتاريخ، والتراث، ويمتدّ من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، جنوبي بيروت، حتى قمم الجبال العالية التي يغطيها الأرز الشامخ، ومحميّات التنوّع البيولوجي.

مجلة كل الأسرة

ولكلمة «الشوف» معانٍ عدّة، بينها الإطلالة على الطبيعة الخضراء، والمناظر الخلّابة على مد العين من الباروك الى شاطئ البحر، حيث يوضح الناشط السياحي والبيئي، حسام الأشقر، أن بساطاً أخضر يغطي كل هذه المساحة، خصوصاً أشجار الصنوبر، والأزر، والسنديان، والعفص، والملول، واللزاب (في معاصر الشوف والباروك)، فضلاً عن مختلف أنواع الفواكه التقليدية في جبل لبنان، ساحلاً ووسطاً، وفي أعالي الجبال.

مجلة كل الأسرة

ويحيط بالشوف أيضاً، زنار أخضر من قرى قضاء عاليه، حتى عين دارة، وضهر البيدر، ومن الناحية الثانية البقاع الغربي، وبحيرة القرعون، ومن الجهة الثالثة أعالي جزين، نزولاً إلى قرى قضاء صيدا، وصولاً إلى عاصمة الجنوب، ومجرى نهر الأولي، حتى مصبه. ويمكن الوصول إلى الشوف من بيروت فالدامور، ومن المديرج عبر عين دارة، إلى عين زحلتا فالباروك، وأيضاً من أعالي جزين، إلى نيحا، وعماطور، والمختارة، ومن أعالي عاليه، وتحديداً من رشميا إلى عمق الجبال عبر الوادي الأخضر المميّز الذي يمرّ بجسر القاضي الأثري الذي تغطي محيطه طبيعة صنوبرية خضراء.

ويوضح الأشقر لـ«كل الاسرة» أن الرحلة إلى الشوف التي تبدأ من الساحل اللبناني تمرّ بشاطئه الرملي الجذاب، حتى مدخل صيدا، حيث تنتشر على مساحته المجمعات البحرية التي يقصدها مرتادو البحر صيفاً، من لبنان وخارجه.. إشارة إلى أن هذا الشاطئ الرملي يعتبر من أجمل الشواطئ وأنظفها في لبنان.

من الدامور نحو قلب الجبل

ومن الدامور بوابة الشوف، يلج الزائر إلى عمق منطقة غنية جداً بجمالها الطبيعي، وسجلها الحافل الضاربة جذوره في تاريخ لبنان، فيتسلق بيئة زراعية ومرجة خضراء تأسر الأنظار، وتشكّل امتداداً لسهل الدامور، حيث تصطف القرى في القمم الجبلية بين الدبية والمشرف، وترافق الزائر مناظر خلابة في كل منعطف، لاسيما عند«ملتقى النهرين» اللذين ينبع أحدهما من بلدة غريفة في أعالى الشوف، ويمرّ بالشلالات الزرقاء في بعقلين، والثاني من نبع الصفا مروراً بجسر القاضي، ليتوحدا في مجرى الملتقى الذي يصبّ في البحر عند الدامور. ويلفت الأشقر إلى أن هذا الموقع كناية عن طبيعة ساحرة تحيط بها المطاعم من الجانبين، حيث يمكن الاستراحة وسط خرير المياه، والطبيعة البكر.

مجلة كل الأسرة

ومن الملتقى نتابع الرحلة صعوداً إلى مغارة كفرحيم، وهي أشبه بتجويفة صخرية تعدّ من أبرز المعالم الجيولوجية في الشوف.. ومن هناك إلى بلدة دير القمر، عاصمة الأمراء، ومركز الإمارة في العهدين، المعني والشهابي. في دير القمر يتوقف الزائر أمام قصور وآثار لا تزال شاهدة على فترات الحكم المتعاقبة، أبرزها سرايا الأمير فخر الدين الثاني، ومسجد فخر الدين الأول، ومتحف ماري باز، وهي كلها تحف أثرية عمرانية للحقبتين، المعنية والشهابية، في ساحة البلدة، إضافة إلى ما يحتويه محيطها من كنوز، بدءاً من مبنى البلدية، والقصور الشهابية الملاصقة. ويتصدر طريق البلدة قصر موسى الذي بناه موسى المعماري بيده، خلال سنوات طويلة، ليجسّد فيه الحياة اللبنانية التقليدية، من خلال تماثيل ومجسّمات تنقل الزائر إلى قرون خلت.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

وقرب دير القمر تقع بلدة بيت الدين، الشهيرة بمناظرها الطبيعية الساحرة، ومعاصرها التقليدية، وفيها «خان الحرير» المتوقّف عن العمل، والذي يعكس ماضي البلدة الصناعي والتجاري. ويوضح الأشقر أن التحفة الأبرز تتجسد في قصر بيت الدين، الذي يُعدّ من أهم معالم لبنان التراثية، ويضم جناحاً مخصصاً كمقر صيفي لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وإلى جانبه ينتصب تمثال الرئيس بشارة الخوري، أوّل رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال. وفي الجوار، ينتصب قصر الأمير أمين، وهو نموذج للفن المعماري اللبناني الفاخر، والمقر الأثري القديم للبطريركية المارونية الذي يُعد شاهداً على العلاقة التاريخية بين الكنيسة والمجتمع في جبل لبنان.

مجلة كل الأسرة

ومن بيت الدين إلى السمقانية، البلدة التاريخية التي كانت مسرحاً لأحداث ثورة عام 1958، حيث لا تزال ساحتها شاهدة على تلك الحقبة الهامة في تاريخ لبنان المعاصر. وفي محاذاة السمقانية تقع بلدة بعقلين، التي تضم المكتبة الوطنية الغنية بمجموعاتها من المخطوطات والكتب النادرة، إلى جانب قصر آل حمادة العريق والشلالات الزرقاء ذات المياه المتدفقة وسط الطبيعة الخضراء.

مجلة كل الأسرة

تحط الرحلة في المختارة، مقر زعامة آل جنبلاط التاريخية، حيث يستقبلك مسجد الأمير شكيب أرسلان عند مدخل دار المختارة، وقد بُنيت على طريقة حديثة الطراز، وإن استوحت الفن المعماري الإسلامي. ويشار إلى أن دار المختارة هي المقر السياسي للزعامة الجنبلاطية، وقربها أقيم ضريح الزعيم الوطني الشهيد كمال جنبلاط. وفي نهاية المختارة تقع شلالات نبع مرشد داخل مطعم قديم. كما أن درب المختارة المخصص للمشي في الطبيعة يحتوي على 4 مطاحن أثرية، و3 جسور رومانية، وبركة العروس.

مجلة كل الأسرة

من المختارة تتواصل الرحلة باتجاهين، الأول نحو جزين، مروراً ببلدة بعذران التي ترتفع نحو 1050م، والتي تتميز بمطارها الشهير الذي يُستخدم لهبوط المروحيات، وطوله نحو 750م، وعرضه نحو 20م، والذي يستفيد منه الجيش اللبناني لأغراض التدريب. ومن على هذا المدرج يطل الزائر على جبل الباروك على امتداد الشوف إلى جزين، من ناحية، وألى ضهر البيدر من ناحية ثانية، وعلى مرج بسري من ناحية ثالثة، نزولاً الى البحر. وفي بعذران أيضاً، سرايا جنبلاطية قديمة جداً، لكنها مهملة حالياً، ويتم تصوير بعض الأفلام في أرجائها.

مجلة كل الأسرة

وعلى مشارف قضاء جزين تقع بلدة نيحا، ذات الأهمية التاريخية، حيث توجد قلعة نيحا المحفورة في الصخر، والتي كانت تُستخدم للتحصّن والمراقبة خلال العصور الماضية، وهناك المغارة التاريخية، ومزار النبي أيوب. أما الاتجاه الآخر فهو من المختارة نحو أعالي منطقة عاليه مروراً بـالباروك، وتشتهر هذه المنطقة بمقاهيها الجبلية، ومناظرها البانورامية، وتضم نصب الشاعر رشيد نخلة، الذي نظم النشيد الوطني اللبناني، إلى جانب ضريحه على رأس التلة المطلة على محمية أزر الشوف.

مجلة كل الأسرة

يتتابع المسير نحو عين زحلتا، ونبع الصفا، وبمهريهن على علو يزيد على 1100م، حيث تتمازج المياه الجارية مع الخضار الصنوبري في مشهد نادر التكرار. ومن عين زحلتا ونبع الصفا وبمهريه يبدأ الصعود إلى غابات أرز الشوف، التي تُعدّ من أكبر المحميات في الشرق الأوسط، والتي يمكن الدخول إليها كذلك من نيحا، والباروك، ومعاصر الشوف، حيث يستطيع الزائر العبور إلى البقاع الغربي باتجاه البقاع.

وحسب الأشقر، تبلغ مساحة المدى الحيوي لمحمية الشوف نحو 5% من مساحة لبنان، وهي تضم أنواعاً متعددة من الأشجار، والطيور، والنباتات، ويُعرف منها أرزة لا مارتين، رمز الصمود والعراقة. وفي هذه المحمية نحو 5 ملايين شجرة أزر، تعود أعمار الكثير منها إلى ما بين 2500 إلى 3000 عام، ويبلغ قطر إحدى هذه الأزرات 17م، وهناك الأرزة الختيارة المميّزة جداً. وفي فصلي الربيع والخريف، تتحوّل المحمية إلى مهبط للطيور المهاجرة، وقد أُنشئت برك، بخاصة في أعالي الغابة لجذبها والمحافظة على التنوع البيئي. ولالتقاط أروع الصور يشير الأشقر إلى أن المحمية تتيح للزائر من أعالي معاصر الشوف إطلالة ساحرة على الشوف كله، كذلك على البقاع الغربي، ومناطق أخرى.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

ولا تكتمل الرحلة إلى الشوف من دون ممارسة رياضة المشي في الطبيعة، على عشرات الممرات على امتداد مساحة القضاء الأخضر، ساحلاً، ووسطاً، وجبلاً، خصوصاً في الحيز الجغرافي الذي يربط عمق الشوف ومرج بسري بمنطقة جزين الشبيهة بخضارها، وتنوّعها الطبيعي والبيولوجي. ومسك ختام الرحلة اختاره الأشقر في أقدم بيوت الضيافة في الخريبة قرب المختارة، والذي شيد منذ اكثر من 300 عام، وقد تم تجهيزه كأول بيت ضيافة في لبنان عام 2000. وقد ركنت قرب البيت سيارة مرسيدس سوداء قديمة مماثلة لسيارة المرسيدس الخاصة بكمال جنبلاط، وقد استخدمت في أحد الأفلام الوثائقية لحياة الزعيم الوطني، وأفكاره، حتى لحظة اغتياله.

مجلة كل الأسرة

 ويُقام في الشوف عدد من المهرجانات الثقافية والفنية، أبرزها مهرجان بيت الدين الدولي الذي بدأت عروضه قبل وقت قصير هذا الصيف، والذي يجذب فنانين ومثقفين من لبنان والعالم العربي، وأصقاع الأرض، كذلك مهرجان الدبكة في معاصر الشوف. وتزدهر في الشوف الزراعة التقليدية، حيث يُنتَج زيت الزيتون، والدبس، والمونة الريفية من المربّيات والمأكولات القروية الأصيلة. ويضم الشوف الكثير من القصور التاريخية، والمواقع الطبيعية الخلابة، من مرج بسري الشهير بمناظره الخضراء، إلى الأنهار التي تتدفق من أعالي الجبال نحو الساحل، مروراً بمسارات المشي التي أصبحت جزءاً من درب الجبل اللبناني، وهو مشروع بيئي وسياحي يربط الساحل بالجبال، من خلال مسارات محدّدة ومؤهّلة للسير. أما الرحلة إلى مرج بسري مشياً على الأقدام، فهي متاحة عبر 3 مسارات: من المختارة، ومن مزرعة الشوف عبر الدرج الروماني، ومن بعذران عبر عماطور.

وأخيراً، يبقى الشوف، بكل تنوّعه الجغرافي والثقافي، وجهة لا بدّ من زيارتها لكل من أراد أن يتعرّف إلى لى قلب لبنان النابض بالحياة والتاريخ.

اقرأ أيضاً: على لائحة التراث العالمي.. «دير القمر» دُرّة جبال الشوف وعاصمة لبنان القديم

* إعداد: شانتال فخري