
تنبض شرايين لبنان بحركةٍ استثنائية هذه الأيام، فالاستعدادات على قدمٍ وساق لموسمٍ اصطيافيّ تشير كل المؤشرات إلى أنه سيكون مختلفاً، وربما الأهم منذ سنوات.

وبعد أعوام من الركود والاضطراب يعود الأمل إلى شوارع بيروت وساحاتها، وإلى الجبال وسواحل المتوسط، بانتظار صيف 2025 الذي يُرجَّح أن يشكّل نقطة تحوّل في خريطة السياحة اللبنانية التي وصلت إلى الحضيض، والتي يمكن القول إن واقع الأكثرية الساحقة من مؤسساتها شبه معدوم بعدما شكلت نحو 30% من الدخل القومي عام 2010.


ولا يخفى على أحد أنّ الحركة السياحية اللبنانية تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2019، متأثرة بالأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، إلى جانب حظر دول الخليج العربي على مواطنيها السفر إلى لبنان، غير أن الصورة تغيّرت اليوم: عودة الثقة، وإعادة ربط الجسور مع الدول الخليجية، وعلى رأسها دولة الإمارات التي بادرت إلى رفع الحظر عن سفر مواطنيها إلى لبنان، واتخذت أكثر من مبادرة لإعادة العلاقات إلى واقعها المميز.

وهذه كلّها مؤشرات إلى بداية فصل جديد عنوانه التعافي والانفتاح وعودة الأشقاء العرب إلى الربوع اللبنانية، وتوقع ارتفاع أعداد المغتربين بنحو أكثر من الثلث عما كان عليه صيف 2023، حيث ازدهرت السياحة الداخلية إلى جانب السياحة التقليدية التي امتاز بها لبنان منذ عقود خلت.

وفي إطار خطة شاملة، باشرت الحكومة اللبنانية تنفيذ مجموعة من التدابير اللوجستية والأمنية استعداداً لاستقبال أعداد كبيرة من الوافدين، حيث يشهد مطار رفيق الحريري الدولي تحسينات ملموسة، سواء من حيث الخدمات أم البنى التحتية، بمساهمة مباشرة من شركة طيران الشرق الأوسط التي تعهدت بتعبيد الطرقات المؤدية إلى المطار وتحسينها. وترافق كل ذلك مع خطط أمنية استثنائية داخل المطار وفي محيطه، وعلى الطرقات الحيوية التي تصل العاصمة بالمناطق الجبلية والساحلية، في محاولة لطمأنة السائح والمغترب على حدّ سواء، وضمان موسم يخلو من أي خلل أمني.

المغتربون والخليجيون.. الرئة الأولى للموسم السياحي
ووفق التقديرات الرسمية، من المتوقع أن يفد إلى لبنان هذا الصيف أكثر من مليوني سائح ومغترب، بينهم مليون ونصف مليون مغترب لبناني يرافقهم ربع مليون سائح خليجي، غالبيتهم من المملكة العربية السعودية في حال رفعها حظر السفر قريباً.

وينتظر لبنان كذلك وفوداً من الأردن، وسوريا، والعراق، ومصر، ودول أوروبية وأمريكية، ما سيرفع منسوب الأمل بإيرادات سياحية قد تتجاوز أربعة مليارات دولار، وما سيكون بمثابة أكسجين منعش للقطاع السياحي اللبناني مثلما يؤكد لـ«كل الأسرة» الناشط السياحي في برمانا طوني تادروس.

وكالمعتاد، سيشكل المغتربون اللبنانيون العمود الفقري للموسم، فهم يملكون منازلهم الخاصة، وقد يستأجرون شققاً وفيلات للإقامة، وسينفقون بسخاء في المطاعم والمجمّعات البحرية والفنادق، إضافة إلى زيارتهم سائر المناطق والمواقع الدينية والأثرية، والمواقع ذات الطبيعة الخلابة والمناظر الفريدة، كذلك الأسواق المحلية لشراء المؤونة والمنتجات التقليدية.

الأسعار ترتفع.. لكن السياحة تعود
ورغم أن الكلفة السياحية أعلى بكثير مما كانت عليه في «أيام العز»، خصوصاً صيف 2010 الذي استقبل خلاله لبنان نحو مليوني سائح نصفهم من الدول العربية، فإن التفاؤل يبقى سيّد الموقف. ورغم أن الأسعار المرتفعة ستشكل تحدياً للسائح المحلي والعربي والأجنبي، فإن وزارة السياحة مع سائر إدارات الدولة والمسؤولين والمعنيين بالقطاع السياحي والحركة التجارية والاقتصادية والبلديات سيراقبون الأسواق من كثب، حيث تقضي الخطة السياحية بالالتزام التام بعدم التلاعب بالأسعار، مع شفافية كاملة ومنع التمييز بين السائح اللبناني والعربي والأجنبي، إلى جانب تقديم أفضل الخدمات وتوفير أحسن الأجواء المواتية للحركة السياحية والاصطيافية.

ورغم أن القطاع السياحي فقد جزءاً كبيراً من كوادره المؤهلة بسبب الهجرة، وتحوّل الكثيرون من العاملين فيه إلى مهن أخرى، فإن التحدي الأكبر يبقى في تأمين الجودة والخدمة الاحترافية وسط ضغط مرتقب على الفنادق، والمطاعم، والشقق المفروشة، وبيوت الضيافة.

مهرجانات وسياحة بيئية ودينية
ولعل أحد أعمدة خطة التعافي السياحي يكمن في إعادة إحياء المهرجانات في مختلف المناطق اللبنانية، إضافة إلى دعم السياحة البيئية والدينية، في محاولة لتنشيط الاقتصاد المحلي عبر استقطاب الزوار إلى الأرياف والقرى، حيث المنتجات التقليدية والمؤونة اللبنانية الأصيلة.

ويراهن المعنيون بالسياحة على تنويع الأنشطة لجذب فئات متعددة من السياح من عشاق الجبل والطبيعة، إلى الباحثين عن الراحة والترف، إلى محبي المغامرة والمهرجانات. ومن المتوقع أن تقصد العائلات الوافدة من دول الخليج بيروت وقرى الاصطياف التقليدية في أواسط أقضية عاليه، وبعبدا، والمتن، وأعاليها، خصوصاً بحمدون، وحمانا، والجوار، وعاليه، وبرمانا، وبيت مري، وبعبدات، والجوار، وصولاً إلى بكفيا، والنعص، والدلب، حيث ينكب المسؤولون في القطاعين الرسمي والخاص على توفير كل وسائل الراحة والخدمات والبنى التحتية اللازمة.
وفيما يشار إلى أن العائلات تطول إقامتها في لبنان، حيث تنزل في منازلها أو فيلاتها أو قصورها، أو تقصد الفنادق والشقق المفروشة أو المنازل المعدة للإيجار، فإن جزءاً من الوافدين من دول الخليج هم من الشباب الذين يقصدون بيروت والمناطق الساحلية، مروراً بضبيه، وساحلي كسروان وجبيل، حتى البترون، ولا يقيمون طويلاً في لبنان إلا أنهم قد يقصدونه أكثر من مرة في الصيف الواحد طلباً للسهر والترفيه.

وقد يكون الشريط السياحي، الممتد بين بيت مري وبكفيا، مثالاً حياً للإقبال الخليجي إلى لبنان هذا الصيف، وهو يتميز بخضاره الصنوبري وبيئته المميزة وإطلالته على البحر، كذلك على الجبال المحيطة في أعالي بعبدا، وعاليه، وصولاً إلى صنين، وبجمال مناظره بدءاً من وادي لا مارتين وصولاً إلى فرادة العمران فيه من المنازل والقصور القديمة الطراز، إلى البنايات والبيوت الحديثة الفخمة، والمدارس والجامعات، والفنادق والمجمعات السياحية الفخمة، والمطاعم، والملاهي، والمؤسسات التجارية الحديثة.

في هذا الشريط فإن بيت مري بلدة حديثة بكل ما للكلمة من معنى، فيها فندق البستان الشهير بتاريخه وتراثه الفني بدءاً من مهرجاناته السنوية، إلى جانب دير القلعة وناديها وآثارها ومبنى بلديتها الحديث. ويتشارك في بيت مري الطراز القديم والحديث من العمران، ولأبناء دول الخليج حصتهم من هذا البناء المميز، إلى جانب تعلقهم بالحياة في هذه القرية المتطورة.

أما برمانا، التي انطلقت حكايتها مع السياحة والاصطياف مع إنشاء مدرسة برمانا العالية فيها، فغدت اليوم قبلة السياحة الجبلية الحديثة على امتداد سلسلة جبال لبنان الغربية. ويشير تادروس إلى أن برمانا مقصد للعائلات والشباب على حد سواء من لبنان ودول الخليج، كذلك من قبل المغتربين وسائر دول العالم، نظراً للعدد الهائل الذي تضمه في أرجائها من الفنادق والمطاعم والشقق المفروشة، ومن سائر المؤسسات السياحية التي تتيح للجميع أفراداً وعائلات أن يجدوا في مؤسساتها كل ما يطلبونه في ظل بيئة وطبيعة قل نظيرهما في لبنان والمنطقة.
ويؤكد تادروس أنّ برمانا ستكون كالعادة القلب النابض للخليجيين، سواء للعائلات التي تقيم فيها أو خارجها، أو للشباب الذي يبحث عن الاستمتاع والترف والسهر، لافتاً إلى أن الكثير من هذه العائلات يملكون قصوراً وفيلات ومنازل في برمانا. وينقل تادروس حرص الجميع على تقديم أفضل الخدمات، وضمان أحسن الأجواء، ومراقبة الأسعار في برمانا.

أما بعبدات، وضهر الصوان، وبحنس، وساقية، والمسك، وبحرصاف، وضهر الباز، والنعص، وبكفيا، والمحيدثة وصولاً إلى الدلب فهي شريط جبلي متوسط الارتفاع وأخضر صنوبري، وفيه أجمل المناظر الطبيعية والإطلالات الخلابة على صنين، وكسروان، والبحر، كذلك على جبال أعالي بعبدا وعاليه من الناحية المقابلة. ويضم هذا الشريط الجبلي المميز والقريب من الساحل عدداً من قصور الخليجيين وفيلاتهم وبيوتهم، إلى جانب عدد من المطاعم، والفنادق، والشقق المفروشة سواء في النعص أم في الدلب.
ويقول الناشط السياحي في النعص بول حديفة لـ«كل الأسرة» إن الإقبال على هذه المنطقة سيشهد ارتفاعاً ملحوظاً عما كان عليه صيف 2023، سواء من المقيمين أو المغتربين أو الرعايا الخليجيين، متوقعاً أن تكون الحركة في المنطقة مميزة جداً هذا الصيف. وينقل حديفة عن الجميع حرصهم على مراقبة الأسعار، وتوفير كل وسائل الراحة والخدمات للوافدين الذين سينزلون في منازلهم وقصورهم، أو في الفنادق، أو الذين سيقصدون المطاعم والمؤسسات السياحية الأخرى.

ويؤكد القيمون على الحركة السياحية في النعص أنه سيجذب عشاق الطبيعة وطالبي الراحة والاستجمام من الأفراد والعائلات، مثلما كانت عليه حالته منذ نحو قرن أيام الباشاوات من مصر، وما تشهد عليه زوايا فندق النعص القديم. ويرى هؤلاء أن الانطلاقة المتوقعة هذا الصيف، بدعم من المغتربين وعودة الخليجيين، قد تشكل بداية جديدة، وخطوة أولى نحو استعادة «أيام العز» التي افتقدها لبنان طويلاً.
فهل سينجح لبنان في استثمار هذا الصيف الواعد لإعادة تموضعه على الخريطة السياحية العربية؟ كل المؤشرات تقول نعم، إذا صمد الاستقرار السياسي، واستمرت الإجراءات الحكومية والمجتمعية على الوتيرة نفسها.
* إعداد: شانتال فخري