09 أبريل 2025

كيف تؤثر علاقاتنا الاجتماعية في صحتنا النفسية وجودة حياتنا؟

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

تلعب العلاقات الاجتماعية دوراً جوهرياً في حياة كل فرد، لتتجاوز كونها مجرد تفاعل يومي، وتمتد لتصبح مصدراً للأمان والدعم النفسي، وعاملاً هامّاً في تشكيل مسار الحياة، واتخاذ القرارات. وبينما تمنح العلاقات الإيجابية الفرد الثقة، وتعزز صحته النفسية، تتحول العلاقات السامة إلى عبء ثقيل يقود إلى الإحباط والتوتر، وربما العزلة، في بعض الأوقات.

في تحقيقنا هذا، نلقي الضوء على تأثير العلاقات الاجتماعية، من خلال قصص واقعية تلخّص تجارب مختلفة بين الدعم والخذلان، إضافة إلى استعراض آراء المختصين في مجال الصحة النفسية وتطوير الذات، للتمييز بين العلاقات الصحية والسامة، وكيفية بناء علاقات متوازنة تحمينا من التأثيرات السلبية، وتساعدنا على تحقيق الاستقرار النفسي والحياتي:

مجلة كل الأسرة

وحيدة مع طفلة مريضة وهموم العائلة

في هذا الإطار، تسرد لنا إحدى الزوجات قصّتها، حيث تمكنت من تحويل ألم وإهمال زوجها إلى قوة ودافع رغم مرض ابنتها، وبدلاً من الغرق في خيبة الأمل، اختارت أن تكون سنداً لطفلتها، رافضة أن تعيش دور الضحية، ومؤمنة بأن دورها الحقيقي يكمن في بناء مستقبل أفضل لابنتها.

لم تكن تعلم «أم لانا» أن حياتها الزوجية التي بدأت بقصة حب كبيرة ستتحول بشكل سريع إلى روتين مرهق من العمل، داخل المنزل وخارجه، وسط ضغوط الحياة ومتطلبات الأسرة. بعد إنجاب طفلتها الأولى، وجدت نفسها وحيدة في تحمّل جميع الأعباء المنزلية، بينما يهتم زوجها بمسيرته المهنية، ساعياً إلى تحقيق طموحاته، من دون الالتفات إلى شريكة حياته، ومسؤولياته الأخرى. لتفاجأ بمنعطف جديد أصعب في حياتها، عندما تم تشخيص طفلتها باضطراب التوحد، وتجد نفسها أمام مسؤولية جديدة أكبر. وبدلاً من انتظار اهتمام الزوج الغائب، قرّرت أن تكرس حياتها لرعاية ابنتها، مركّزة على رفاهيتها النفسية وتعليمها.. تقول «اخترت أن أكون مع ابنتي، أن أدعمها، وأوفر لها حياة أفضل، حتى لو كان ذلك على حساب راحتي الشخصية».

مجلة كل الأسرة

صديق غير أمين

على الجانب الآخر، هناك علاقات سامة تؤثر في الفرد، وتزعزع ثقته بنفسه، وتتحوّل إلى مصدر للأذى، وهي شبيهة بما تعرّض له أحمد عبد الرحمن، الذي خاض تجربة مريرة مع أحد زملائه في العمل، جعلته يعيد النظر في مفهوم العلاقات المهنية، وحدوده، يوضح «وثقت به إلى حد مشاركته تفاصيل حياتي المهنية والشخصية، كنت أرى فيه الصديق الذي يمكن الاعتماد عليه، لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أنه لم يحفظ أسراري التي ائتمنته عليها، بل واستغل معرفته بي لتحقيق مصالحه الخاصة داخل بيئة العمل». هذه التجربة لم تكن سهلة، ففي الوقت الذي شعر فيه أحمد بالخذلان، شكلت هذه التجربة نقطة تحوّل في نظرته للعلاقات الاجتماعية داخل العمل، حيث تعلّم أهمية وضع حدود واضحة مع الآخرين، والتمييز بين العلاقات الصحية، وتلك التي تقوم على الاستغلال. وبات يؤمن بأن بناء الثقة يجب أن يكون وفق معايير مدروسة، لضمان عدم الوقوع في دوامة الخذلان مرة أخرى».

مجلة كل الأسرة

السلام النفسي أساس العلاقات المتوازنة

توضح المستشار النفسي والأسري الدكتورة آمال النمر«تبقى العلاقات الاجتماعية أحد العوامل الأساسية التي تؤثر في تكوين شخصية الفرد، سواء كانت هذه العلاقات داخل الأسرة، أو في محيطه الاجتماعي الخارجي، فالفرد يتأثر بالمحيط الذي ينشأ فيه، بل ويكتسب من خلاله أنماط سلوكه وتفكيره، التي تنعكس بالتالي، وبشكل مباشر، على ثقته بنفسه، وقدرته على التعامل مع التحدّيات التي يمرّ بها في حياته، لذلك من الضروري أن يدرك الإنسان الفرق بين العلاقات الإيجابية التي تدعمه، والسامة التي تستنزفه»، وتشرح «البقاء في بيئة غير صحية عاطفياً يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية، وانخفاض الثقة بالنفس، وحتى التأثير في الأداء المهني والاجتماعي. لذا، من الحكمة أن يحيط الفرد نفسه بأشخاص يعززون من تطوره الشخصي، ويدفعونه إلى الأمام، بدلاً من العلاقات التي تستهلك طاقته، وتحدّ من إمكاناته. فالتوازن في العلاقات، والقدرة على اختيار الدوائر الاجتماعية المناسبة، هي مفتاح حياة أكثر استقراراً ونجاحاً».
وتكشف «وفي ظل كل الدعوات التي تشير إلى أهمية العلاقات مع الأسرة، والأصدقاء، والمجتمع، علينا أن ندرك أهمية العلاقة الإيجابية بين الفرد وذاته. إذ لا يمكن للإنسان أن يكون جزءاً من علاقة صحية ومتوازنة، إذا لم يكن في سلام مع نفسه أولاً، فالعلاقة الإيجابية مع الذات هي الأساس الذي تُبنى عليه كل أشكال العلاقات الأخرى في الحياة».

ماذا تعني العلاقة الإيجابية مع الذات؟

توضح د.النمر «هي العلاقة التي تمنح الإنسان القوة والتحفيز لتحقيق أهدافه، وتحافظ على صحته، النفسية والعاطفية. ولكي يصل الفرد إلى هذا المستوى من الوعي الذاتي، لا بد أن يمرّ بمراحل عدّة، أولاها معرفة الذات. فالكثير من الأشخاص يعتقدون أنهم يعرفوا أنفسهم جيداً، لكن في الواقع يعيش البعض منهم في حالة من التوهان الداخلي، غير مدركين تماماً لما يريدونه في الحياة، أو ما الذي يدفعهم إلى الأمام».

وعن كيفية بناء علاقة إيجابية مع الذات، تشير إلى أن «الخطوة الأولى أن يكون الإنسان واضحاً بشأن قيمه ومبادئه، فالقيم الشخصية هي البوصلة التي توجه الفرد في حياته، وتحدّد قراراته، واختياراته، وحتى نوعية العلاقات التي يقيمها مع الآخرين، فعندما يكون لدى الفرد فهم واضح لما يقدره في الحياة، يصبح أكثر قدرة على التعامل مع محيطه، وفهم كيفية وضع الحدود التي تلعب دوراً أساسياً في تحديد طبيعة التفاعل والتعامل مع الآخرين، فهي تختلف باختلاف درجة القرب الاجتماعي من الشخص، فالعلاقة مع الزملاء والأصدقاء، تختلف عن العلاقة مع أفراد الأسرة الممتدّة، كما أن العلاقة مع الشريك، أو الوالدين، أو الأبناء، تكون أكثر خصوصية. لذلك، من الضروري أن يكون الفرد واعياً لهذه المسافات الاجتماعية، ويحدد بوضوح الخطوط الفاصلة التي تحافظ على راحته النفسية، من دون أن تؤثر في تواصله مع من حوله».

مجلة كل الأسرة

الابتسامة مفتاح لخلق أجواء إيجابية

من جانبه، يكشف المستشار ومدرب التنمية البشرية الدكتور أنور بن حاميم بن سليم، دور العلاقات الإيجابية في تحسين جودة الحياة «إضافة إلى دورها في منح الفرد الشعور بالسعادة والرضا، فهي تخفف من ضغوط الحياة، كما تعزز الثقة بالنفس، وتطوّر الشخصية. ومن الناحية الفسيولوجية، تؤثر هذه العلاقات في إفراز هرمونات السعادة، مثل الدوبامين، الأندروفين، السيروتونين، والأوكسيتوسين، التي تساعد على تقليل التوتر وتعزيز المشاعر الإيجابية». مشيراً إلى نظرية ثيبوت وكيلي، في تفسير العلاقات الاجتماعية «عملية تقوم على حسابات المنفعة والتكلفة. فالعلاقات تستمر عندما يشعر الطرفان بالتوازن في العطاء والأخذ، بينما تتراجع، أو تتلاشى، عندما يكون أحد الطرفين مستنزفاً، أو لا يجد مقابلاً لما يقدمه».

من جانب آخر، يحذر د. أنور من تأثير العلاقات السامة في الصحة النفسية والجسدية في الفرد، والتي غالباً ما تؤدي إلى ما يعرف بـ«التسمّم المعنوي»، وهي تتسم بعدة مظاهر خطرة، أهمها:

  • النفاق والمحسوبية: حيث يتم استغلال أحد الأطراف من دون مراعاة مشاعره، أو حقوقه.
  • التوتر الدائم: نتيجة النقد المستمر وتقليل الثقة بالنفس.
  • استنزاف الطاقة: يحدث عادة بسبب الإحباط والتثبيط الدائم للعزيمة.
مجلة كل الأسرة

ولتفادي العلاقات السامّة ينصح بـ:

  • الابتعاد عن أصحاب الشخصيات السامة قدر الإمكان، لتفادي تأثيرهم السلبي في الحياة الخاصة.
  • التعامل بحذر مع الأشخاص المقرّبين (مثل الأزواج، الأبناء، الأصدقاء المقربين، أو الزملاء)، وذلك بعدم الاندفاع معهم بعمق لتفادي تأثيرهم السلبي، وكذلك توخي الحذر من الانسحاب الكامل من العلاقات القريبة.

يقدم، المستشار ومدرب التنمية البشرية، نصائح عدّة لبناء علاقات اجتماعية ناجحة وصحية، منها:

  • اختيار الصحبة الجيدة: من المهم أن يحيط الشخص نفسه بأشخاص إيجابيين يعززون من طاقته الإيجابية.
  • تهذيب الذات وتطوير الذكاء العاطفي: وذلك من خلال تعلّم التحكم في المشاعر، سواء السلبية أو الإيجابية، والتفاعل مع الآخرين بوعي ونضج.
  • تفهّم اختلافات الآخرين: تقبّل أن لكل شخص رؤيته، ورغباته، وآراءه المختلفة، ما يساعد على بناء علاقات متوازنة.
  • الابتسامة سلاح قوي في العلاقات: تبقى الابتسامة مفتاحاً سحرياً يساعد على خلق أجواء إيجابية، وتعزيز الروابط الاجتماعية.
  • إجادة فن الاهتمام المعتدل وحسن الاستماع: إظهار الاهتمام بالآخرين والاستماع الجيد لهم من دون مبالغة، يسهم في تقوية العلاقات الإنسانية.
  • إتقان فن الاعتذار وتجنّب الجدال العقيم: الاعتذار عند الخطأ يجذب الاحترام، كما أن تجنب المجادلات غير المجدية يقلل من التوتر الاجتماعي.
  • وضع حدود لكل علاقة: تفادي التدخل الزائد في حياة الآخرين، ووضع خطوط واضحة تضمن الاحترام المتبادل.
  • التغافل عن الحماقات والتصرفات السلبية: ليس كل تصرّف سلبي يستحق الرد، أو التفاعل، والتغافل أحياناً يكون الحل الأمثل للحفاظ على راحة البال.