تشكّل رحلات السفر بالنسبة إلى الكثير خطوة لا يمكن الاستغناء عنها، ويسعون للتخطيط لها، والاستمتاع بكل لحظة فيها، والتي يبدأ التجهيز لها بحزم الحقائب، ووضع البرامج للتعرف إلى أماكن جديدة، وتكوين خبرات مختلفة، وغيرها من التفاصيل التي تزيد التشويق والإثارة، إلا أن التكنولوجيا لا تزال تفاجئنا بأسرارها، وتثبت أنها قادرة على تغيير كثير من الثوابت، ومنها السفر عبر «الميتافيرس»، والانتقال إلى أي مكان حول العالم، ونحن جالسين في بيوتنا.
تقنية جديدة بدأت تتشكل على أرض الواقع، ربما على استحياء حتى الآن، إلا أنها أثارت تساؤلات، هل يُشبع هذا العالم الافتراضي احتياجات من لديه هواية السفر؟ وهل يرضي رغباتنا النفسية، ويحقق السعادة المنشودة من قيامنا برحلات فعلية للاستمتاع؟
فرح الباشا، موظفة، تقول «تجربة السفر متعة في حد ذاتها، نحقق من خلالها السعادة التي ننشدها، وعلى الرغم مما تتضمنه من مجهود بدني كبير، إلا أننا ننتظرها ونخطط لها من عام لآخر، ففيها نرى أماكن جديدة، ونتعرف إلى ثقافات مختلفة، وأكلات متنوعة، لشعوب متباينة، كل ذلك لا يترسخ في أذهاننا سوى بالتفاعل على أرض الواقع، فضلاً عن الاستمتاع بالطبيعة الساحرة التي تضفي على النفس بهجة وسعادة.
أما السّفر الافتراضي فربما يساعد البعض ممن لديهم ارتباطات تعيق توفير الوقت لتنظيم رحلة، أو يعانون أمراضاً جسدية يصعب معها الانتقال والحركة الكثيرة، أو قد يشبع هذا النوع من التقنيات حاجة ما عند المراهقين والشباب، الذين باتوا يفضلون العيش في عالم موازٍ،، بعيد عن الواقعي تماماً».
أما آمنة عبدالله، 27 عاماً، فهي من عشاق السفر، تهوى التنقل بين الأماكن، وتحب توثيق اللحظات بالصور والفيديوهات «لا توجد تجربة افتراضية تماثل سعادتي وأنا أجهز حقيبتي، وأضع فيها الملابس المناسبة لكل فعالية ونشاط أؤديه خلال سفرتي، فأنا أنتظر أي إجازة، ولو قصيرة، كي أنطلق بحثاً عن الطبيعة الساحرة والمزارات الجديدة، التي ترضي ذاتي، وتحسّن من مزاجي، حاملة معي كاميرتي الخاصة كي ألتقط الصور، وأوثق كل لحظة أعيشها، فالواقع الافتراضي ما هو إلا فقاعة هواء لا تضيف إلينا شيئاً له معنى، ويترك أثراً حقيقياً في داخلنا».
لا بديل عن السفر الواقعي
من جهته، يبيّن وسيم مرعبي، المدير التنفيذي لإحدى الشركات، «لا يوجد بديل عن تجربة السفر للاستمتاع والاسترخاء، والتخلص من ضغوطات الحياة، ولو بشكل مؤقت، بل هناك فقط استخدام للتكنولوجيا كي تجعل رحلتنا أفضل، فشركتنا، على سبيل المثال، تقدم تجارب الواقع المعزز، وفيها يتم أخذ الزائر في جولات افتراضية تساعده على معرفة معلومات إضافية عن المكان الذي سيتوجه إليه، بجانب توفير بعض الخصومات لدخول وجهات معينة، أو حجز الفنادق، وغيرها.
والحقيقة أن هذا كله لا يمكن أن يكون بديلاً للشيء الملموس، فالواقع المعزّز مجرد تجارب رقمية تقوّي تجربة السفر الحقيقية، وتوفر الكثير من التفاصيل التي ربما لا تسمح لنا الفرصة بالتعرف إليها عند الذهاب للوجهة المقصودة».
كما يخبرنا عن «الميتافيرس» طارق جاسر، خبير في الذكاء الاصطناعي، وشريك مؤسس بشركة مايكو «الميتافيرس مصطلح يشير إلى عوالم افتراضية ثلاثية الأبعاد، إذ يمكن للمستخدمين التفاعل، والعمل، واللعب، في بيئات رقمية متطورة، ويتيح فرصاً لتجارب غامرة تتجاوز الحدود الجغرافية، ما يمكّن الأشخاص من التواصل والتعاون بطرق مبتكرة ومشاركة التجارب فيما بينهم.
وكذلك يفتح آفاقاً جديدة في مجالات مثل التعليم، والأعمال، والطب، والسفر والترفيه، ومن المتوقع أن تؤثر تقنية الميتافيرس في مختلف جوانب الحياة اليومية في المستقبل القريب، وستتيح تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزّز تجارب جديدة ومحسّنة في التعليم، العمل، والترفيه، ما يدفع بتحولات جوهرية في كيفية تفاعلنا مع العالمين، الرقمي والمادي، على حد سواء».
وعن كيفية السفر الافتراضي ومدى تطبيقه على أرض الواقع، يوضح «على الرغم من أن السفر عبر الميتافيرس مازال في مراحله التطويرية الأولى، إلا أن هناك منصات تقدم تجارب مماثلة للسفر الافتراضي، وهذه التقنيات في تطور مستمر، وتسعى لتحسين الجودة، والتشبّه بالواقعية في هذا النوع من السفر، الذي يتيح للمستخدمين استكشاف أماكن افتراضية، تحاكي وجهات حقيقية، أو خيالية، من دون الحاجة إلى الانتقال جسدياً، ويمكن للمستخدمين التفاعل مع البيئات والشخصيات، واستكشاف ثقافات وتجارب جديدة في بيئة آمنة ومريحة، من منازلهم».
"الميتافيرس" لن يرضي الحاجة إلى التفاعل مع البيئات والأشخاص الحقيقيين
وعن مدى إشباع هذا الواقع المعزّز لاحتياجات محبي السفر «يظهر المستخدمون اهتماماً متزايداً، واستجابة إيجابية لهذه التقنيات الجديدة، وعلى الرغم من أن الميتافيرس يقدم بديلاً للسفر التقليدي، إلا أنه لا يمكن استبدال التجربة الحقيقية كاملًا، فهو فقط يشبع بعض الجوانب مثل استكشاف الأماكن الجديدة، أو الخيالية، وتعلّم الثقافات المختلفة، لكن قد لا يرضي كل الرغبات النفسية، والحاجة إلى التفاعل الفعلي والمباشر مع البيئات والأشخاص الطبيعيين».
«الميتافيرس».. آثار نفسية وخيمة
وعن تأثير مثل تلك التقنيات في الجانب النفسي، تشير الدكتورة زينب عبد العال إبراهيم، أستاذة علم النفس بجامعة أبوظبي، ومدربة ومستشارة معتمدة في مجال الإرشاد النفسي والأسري «تُعد الأسرة البيئة الأولى للتفاعل مع الأفراد، وبناء عليه تكون الحياة الأسرية مرهونة بطبيعة الاتصال القائم فيها، فإما تعايش سلمي، وإما صراع، يؤدي إلى خلق أزمة نفسية واجتماعية داخل هذا الكيان، وفي ظهور التكنولوجيا الحديثة التي اكتسحت معظم الأسر، ما أفقدها وظيفتها الأساسية، وأصبح الشباب ينشئون علاقاتهم عبر الهاتف النقال، والغوص في مواقع الإنترنت، والسفر للعالم الافتراضي، بدلاً من علاقتهم مع أفراد أسَرهم، ما يجعلهم بعيدين عمّا يحدث داخلها، فالوجود الجسدي داخل المنزل لا يكفي، إن لم يصاحبه وجود روحي فعّال، يتمثل في الحوار، والنقاش، والتعاون بين أفراد الأسرة».
وفي ما يتعلق بالتكنولوجيا الحديثة، وأثرها في حياة الناس، تلخّص الدكتورة زينب عبد العال أهم نتائجها:
الاستخدام المفرط لهذه التقنيات يؤدي إلى اضطرابات ومشكلات نفسية
بدورها تؤدي هذه النتائج المتعلقة بالطوفان الرقمي، مثل «الميتافيرس»، إلى تأثير خطر في الصحة النفسية، وتغيير نمط تفكير الإنسان في الحياة، وتحوّل الإدراك الحسي بالأشياء إلى إدمان الإنترنت، فالاستخدام المفرط لهذه التقنيات يؤدي إلى اضطرابات ومشكلات نفسية، تشير إليها الدكتورة زينب عبد العال:
«الميتافيرس» تقنية تهدم روح التقارب
وعلى صعيد التأثير الأسَري، تعلق الدكتورة رقية حسين محمد، مستشارة تربوية وأسرية «نتكلم اليوم عن تقنية جبارة لم نكن نتخيل يوماً أن العالم ككل، يمكن التجول فيه عبر آلة صغيرة تشبه النظارات الشمسية، وعلى أي حالة فهذه التكنولوجيا أثارت لدى الكثيرين الفضول حول استخدامها والتعرف إلى مكنوناتها، وتجاربها، في محاولة منهم للوصول إلى الأهداف التي يبحثون عنها، ومما لا شك فيه سوف تحقق لديهم مفهوم الرؤية للأماكن التراثية، أو الثقافية، أو التاريخية، أو السياحية، أو الفعاليات، وغيرها، في مختلف الدول. ولكن يبقى السؤال: كيف ستعوّض هذه التقنية إشباع الكثير من احتياجات الأفراد في الاستمتاع بروح المكان والتغيير الوجداني والعاطفي، واكتساب مهارات جديدة من خلال الاحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى؟».
في الرحلات العائلية توجد حالة من التلاحم والتقارب والألفة بين أفرادها
كيف يمكننا أن نشحن طاقتنا ونمتّع أبصارنا، ونشبع احتياجنا، العقلي، والفكري، والعاطفي، والثقافي، أثناء السفر عبر هذه التقنية؟ تجيب د. رقية «عندما نخطط لرحلة ما، فنحن بطبيعة الحال نبحث من خلالها على التغيير والتقارب بين أفراد العائلة، والتعرف إلى أجواء جديدة بعيدة تماماً عما تعوّدنا عليه، ما يخلق بداخلنا نوعاً من التلاحم والتقارب، وزيادة مستوى الألفة، والمحبة، والتفاعل، والمشاركة في ممارسة أنشطة جديدة، ومختلفة، بعيداً عن ضغوطات الحياة.
وعندما تأتي تقنية الميتافيرس فكأنها تحاول هدم هذه الروح ولا تحقق هذه الأهداف والرغبات، وإعطاء فرصة لتولد تلك المشاعر والأحاسيس ومشاركتها مع أفراد الأسرة الواحدة، فبلا شك، بانتشار هذه التقنية سنخسر الأهداف المنشودة من السفر، والاستمتاع بالأجواء، والطبيعة، والتاريخ، وروح الشعوب، واكتساب الثقافة والعلوم والمعرفة، من خلال التعرف إلى أفراد جدد، وأماكن جديدة، وليكن التوازن هو الحل، وليبق خيار الميتافيرس وقت الظروف المادية، التي لا تساعد على استقلال الطائرة، وضيق الوقت، أو صغر عمر الأطفال، أو أي سبب آخر، فهنا نستمتع مع هذه التقنية من باب التغيير وإشباع جانب من الاحتياج النفسي غير المكتمل».