26 مارس 2023

العزلة الاجتماعية.. راحة بال أم هروب من الواقع؟

محررة في مجلة كل الأسرة

العزلة الاجتماعية.. راحة بال أم هروب من الواقع؟

هناك من يرى أن الابتعاد عن الآخرين بات حلاً مثالياً يتجنّب به أي علاقة يمكن أن تتسبب له ضغطاً نفسياً، وهناك من يؤيد الفكرة بحجة أنها نوع من راحة البال تحميه من أن يجر لمشاكل جانبية هو في غنى عنها.

وهنا نطرح تساؤلاً: هل بالفعل يؤدي اعتزال الناس وتجنّب مخالطتهم إلى راحة البال، أم إن العلاقات الإيجابية ترفع من قيمة التآخي وتحمي من العزلة الاجتماعية؟

تقول أميرة ياسين، ربة منزل «نعيش حالة عزلة غير مفهومة؛ إذ بات التواصل بين الناس محدوداً، ولا أنكر مستوى الضيق الذي يعتريني عندما يكتفي حتى أقرب الناس إلـيّ بالتواصل معي عبر الهاتف في أي مناسبة أو موقف صعب أمرّ به، وأنا على سبيل المثال لم أجتمع وأسرتي بباقي العائلة منذ عدة أشهر، على الرغم من أننا كنا ننتهز أي مناسبة للتجمع ومشاركة الآخرين فرحتهم، وكم من محاولات بادرت بها من أجل لمّ الشمل من جديد، إلا أنها باءت بالفشل بحجج مختلفة وغير منطقية بالنسبة لي».

العزلة الاجتماعية.. راحة بال أم هروب من الواقع؟

علاقات التنمر و"البزنس"

وتوضح الدكتورة هبة شركس، مستشارة صحة نفسية وخبيرة أسرية «علت الأصوات في الآونة الأخيرة منادية بأن يعتزل كل منا ما يضايقه بغرض حماية النفس من الأذى، وهو ما أدى إلى انتشار دعوة تشير إلى قطع بعض العلاقات الاجتماعية مفادها أنها سامة ويجب تجنب مخالطة أصحابها، خاصة إذا ارتبط ذلك بصفة غير محمودة كأن يكون صاحبها شخصاً عصبياً أو نرجسياً أو اعتمادياً أو مستغلاً لغيره. ولكن تسمية العلاقات مع هؤلاء بأنها سامة يجعلنا غير فاعلين وليس لنا دور، فالعلاقة الحقيقية هي تفاعل بين طرفين».

وتضيف د. هبة شركس «إذا كان يوجد في حياتنا شخص نحب أن نشاركه الجلسات ونرتاح للوجود معه، إلا أن ذلك يفسح المجال لأن يتنمّر علينا، فهنا لابد أن نتوقف عن استمرار تلك الجلسات أو التقليل منها، وبالتالي سيتوقف المتنمر عن أفعاله دون مقاطعته. وكذلك الحال إذا ارتبط شخصان في علاقة «بيزنس» ووجد أحدهما أن الطرف الآخر ليس عادلاً في مسألة تصريف الأموال، هنا يجب أن يتوقف عن مشاركته مرة أخرى، ولا مانع من أن يستمر في علاقته به، ولكن يتجنّب الدخول معه في شراكة غير مريحة».

بناء علاقات قوية مع محيطنا الخارجي يمنحنا الصحة الجسدية والعقلية ويعطينا عمراً أطول

وتشير الدكتورة هبة شركس إلى أن «الهدف من إقامة العلاقات هنا، هو تحسين مهارات التواصل والقدرات الاجتماعية مع الآخرين وليس مقاطعتهم، فالإنسان كائن اجتماعي بحاجة إلى الآخرين، وقد كشفت دراسة أجريت على طلاب في مدينة بوسطن الأمريكية أن الصحة والسعادة تتأثر بشكل قوي بنوعية العلاقات التي يقيمها الإنسان مع عائلته وأصدقائه ومجتمعه، وكلما كانت علاقاته أقوى وأعمق، يتأخر التدهور الجسدي والعقلي، ويصبح الإنسان أكثر رضاً وسعادة، فبناء علاقات قوية مع محيطنا الخارجي، يمنحنا الصحة الجسدية والعقلية، ويحمينا من الأمراض ويعطينا عمراً أطول».

الانعزال في حقبة ما بعد "كورونا"

ويلفت الدكتور حسين مبارك، حاصل على البورد النمساوي في الطب النفسي والأعصاب، النظر إلى وجود دوافع أخرى يمكن أن تزيد من انعزال الناس حول ذواتهم، قائلاً «عندما يحاط أفراد المجتمع بضغوطات كثيرة ومتنوعة، فإن ذلك يسبب لهم اضطرابات نفسية وجسدية وفيزيائية؛ إذ يبدأ الفرد بعملية دفاعية نفسية وهي عبارة عن الانسحاب من المشاكل أو بمعنى أدق المحيط الذي يسبب له هذه المشاكل. ولا ننكر حقيقة مهمة وهي أن ما مرت به المجتمعات خلال ثلاث سنوات الماضية، وما أحدثته من انعزال بسبب تفشي فيروس «كورونا» غيّـر كثيراً من عادات المجتمع وساعد في ما نشعر به الآن من تقوقع البعض على ذواتهم؛ فضلاً عن تقلص العادات والتقاليد كتلك المرتبطة بإلقاء التحية والمصافحة والاكتفاء بالإشارة من بعيد، وكلها أمور أثّرت في شكل كثير من العلاقات، كما أدى العمل عن بعد إلى انشغال البعض بدوامات مختلفة، وهو ما أفرز تفاوت أوقات الراحة والاسترخاء لديهم، كل تلك الأمور أدت إلى الانسحاب الاجتماعي وتقليص كثير من العلاقات القائمة».

العزلة الاجتماعية.. راحة بال أم هروب من الواقع؟

الفرد بحاجة للجماعة والجماعة أساسها الفرد

من جانبه ، يقول د. سالم بن أرحمة الشويهي، دكتوراه في الشريعة «جبل الإنسان منذ بدء الخليقة على الحياة الاجتماعية، فقال الله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فالآية الكريمة دلت على أن ذلك يعد أمراً فطرياً، والتعارف غاية لاستقامة الحياة الاجتماعية. فكل فرد بحاجة إلى الآخرين وهو منساق إلى عقد الترابط معهم، وعلى هذا الأساس بنيت الحياة الاجتماعية المترابطة لنبني أنفسنا وتنشأ الحضارات أيضاً».

الإنسان كائن اجتماعي بالطبع يألف ويؤلف، ويكره العزلة والانفراد والوحشة ولا يستطيع أن يعيش بمفرده أو أن يستغني عن غيره

ويكمل الدكتور سالم بن أرحمة الشويهي «توصلت العديد من الدراسات إلى أن إقامة الصداقات مع الآخرين، تزيد من التقارب الاجتماعي، وهنا يجب عليك أن تفهم أنك بحاجة إلى غيرك لتستقيم وتهدأ حياتك وتنضج خبراتك، وإلا تكون العزلة مصدر التعاسة والكآبة والتوتر، وكلها أمور تختفي حينما يلتحم الإنسان بأسرته والناس ويقدّم شيئاً من الخدمات لهم، فيؤدي الاختلاط إلى النفع والانتفاع».

ويضيف الدكتور سالم بن أرحمة الشويهي «إذا أوضحنا قاعدة التعامل مع الناس كما جاء في السنة النبوية، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، وهذا الحديث دليل على فضل مخالطة الناس والاجتماع بهم، وأن المؤمن الذي يداخل الناس ويجتمع بهم ويصبر على ما يصيبه من الأذى بسبب نصحهم وتوجيههم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم وينفرد عن مجالسهم وينزوي عنهم أو يعيش بمفرده.

فالإنسان كائن اجتماعي بالطبع يألف ويؤلف، ويؤثر ويتأثر، ويكره العزلة والانفراد والوحشة ولا يستطيع أن يعيش بمفرده أو أن يستغني عن غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس». وينتج عن هذا التعايش تبادل في الأفكار والثقافات في العادات والمعتقدات، وأما ما يشاهد من انطواء كل فرد على نفسه وأسرته فلا يهمه ما يحدث حوله، ويكتفي بعلاقات في أضيق الحدود حتى أصبح الجار لا يعرف جاره، والرجل لا يعرف بعض أقاربه فهذا نهى عنه الإسلام».