
علاقة الإنسان بوالديه ليست شخصية فقط، بل رمزية أيضاً، ولكن قد تأخذ هذه العلاقة أشكالاً وأنماطاً مختلفة، ويكون أفضلها وأصلحها هو اتزان علاقة الطفل بوالديه، بحيث يكون لهما مكانة خاصة، ولكن بعيداً عن التعلق الزائد الذي يتحول إلى علاقة مرَضية، ومؤذية لكلا الطرفين.
خبراء الصحة النفسية وتعديل السلوك يحذّرون دائماً من التعلق الزائد بأحد الأبوين، أو كليهما، ويرون أن هذا الأمر قد يكون طبيعياً ولا يستدعي القلق، بخاصة في مراحل عمرية معيّنة، وأوقات وظروف خاصة، ولكنه في الوقت نفسه مرض تعانيه أغلب الأسر، وله أثار عدّة، على الأم والطفل.
ولأن رحلة الأبوين لفكّ التعلق الزائد عند الأطفال تحتاج إلى معاملة خاصة، وخطوات محسوبة حتى لا ينعكس عليهم بعواقب وخيمة. سألنا في «كل الأسرة» عدداً من المتخصصين في نفسية الطفل والخبراء التربويون حول أبرز أسباب التعلق المَرضي بالوالدين، وما هي العلامات والإشارات التحذيرية التي يجب إدراكها مبكراً، حتى لا نقع في هذه المشكلة، وكيف نتعامل مع الأمر لنفسك الترابط الزائد، من دون خسائر في علاقته بالأبوين:

دوافع تجعل الطفل شديد التعلق بوالديه
بداية، يوضح الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، حقيقة التعلق بالوالدين، بخاصة الأم، ويبيّن أن التعلق ليس دائماً مشكلة، بل قد يكون مرحلة طبيعية، لكنه يتحول إلى مشكلة عندما يقيد استقلال الطفل، أو يعيق الأم عن أداء مهامها اليومية، وهنا يكون الأمر قد دخل في نطاق التعلق الزائد.
ويقول: «عندما يظهر الطفل تمسكاً غير اعتيادي بالوالدين، ويرفض الانفصال عنهما وقت النوم، أو عند الخروج من المنزل، أو حتى عند الانتقال من غرفة لأخرى، وتصيبه في هذه الأوقات حالة من البكاء الشديد، والصراخ، والتشبث الجسدي، أو نوبات غضب متكررة، هنا يجب علينا الانتباه للأمر، ومحاولة فكّ هذا الارتباط بالتدريج».
وحول أبرز الدوافع التي تجعل الطفل شديد التعلق بالأبوين، يحدّدها الدكتور محمد المهدي في نقاط عدّة:
- احتياج الطفل إلى الأمان، فهو دائماً ما يريد والديه مصدر أمان رئيسي بخاصة في السنوات الأربع الأولى من عمره.
- قد يكون السبب أيضاً حدوث مواقف سابقة فيها انفصال مفاجئ، ومن دون تمهيد بسبب دخول الحضانة، أو إصابة الأهل بالمرض، أو السفر، ما يحدث لديه خوفاً داخلياً، وصدمة، وقلقاً من الغياب المفاجئ.
- قد تحدث بعض التغيّرات في الظروف المحيطة بالطفل تسبب التعلق المرضي بالوالدين، كقدوم أخ جديد له، أو الانتقال إلى منزل، أو مدرسة جديدة.
- كما أن ردود أفعال الوالدين مع تصرفات التعلق، سواء كانت ردود إيجابية أو سلبية، قد تزيد من حالة التعلق أذا ما ترجمها الطفل بشكل غير صحيح.
- أن يكون الطفل شديد الحساسية، لا يستطيع فهم التصرفات واستيعابها، ويلتقط قلق الأم في حالة وجود مشكلات أسرية، ويترجمه إلى احتياج مفرط لوجودها.
- طبع الطفل نفسه قد يكون السبب في التعلق، فبعض الأطفال بطبعهم حساسون وقلقون، فيبحثون عن الأمان باستمرار.
- أحياناً يكون السبب هو تعرض الطفل لتجارب ومواقف سابقة غير مريحة، فإذا ما واجه صعوبات، أو تجارب مخيفة في غياب الأبوين، وقتها يربط الأمان بوجودهما فقط.
- المبالغة في الخوف والقلق على الطفل تسبب لديه تعلقاً شديداً بالأبوين، وذعراً من البقاء وحيداً من دونهما.
- التلاعب بمشاعر الطفل، مثل تهديده بتركه، أو الابتعاد عنه، ما يشعره بالخطر الدائم فيتعلق بشدة.
- انعدام دور الأب يجعل الطفل متعلقاً، ويلجأ دوماً إلى أمه، ويظهر ذلك بشدة في حالات الطلاق.
مراحل التعلق بالوالدين... ومتى يكون طبيعياً أو مقلقاً؟
وتتفق معه الدكتورة أسماء يوسف، الخبيرة التربوية واستشاري التنمية البشرية بالقاهرة، في أن الارتباط الوثيق للطفل بوالديه هام، ويعتبر علامة على رابط عاطفي آمن وعميق، وليس مشكلة، ولكن المشكلة تكمن في المجتمع الذي صار مهووساً باستقلالية الطفل عن والديه قبل أن يكون ذلك مناسباً من الناحية التنموية.
وتضيف «من عمر الولادة حتى ستة أسابيع، لا يظهر الطفل أيّ تعلق أو ارتباط خاص بالوالدين، أما من عمر ستة أسابيع إلى عمر سبعة أشهر فيبدأ الرضيع بإظهار تفضيله للأبوين، بخاصة إذا كانا هما المسؤولَين وحدهما عن تقديم الرعاية، أما من عمر ثمانية أشهر إلى عمر عامين ونصف العام، فيكون التعلق طبيعياً جداً، مهما كانت قوته، لا تستطيع وصفه بأنه زائد، أو مرضي، وكذلك الأمر في الأيام الأولى لدخول الروضة، أو المدرسة، ويخفّ مع الوقت. لكن يتحول الأمر إلى تعلق زائد أو غير طبيعي بعد عمر الخمس سنوات، بخاصة عندما يصاحبه خوف شديد، أو رفض مدرسي، أو اضطراب في النوم».

تصرفات خاطئة مع الطفل شديد التعلق وآثارها
العلاقة المفرطة للأبوين بالطفل والتي تعرف بالتعلق الزائد، أو الحماية المفرطة، قد تبدو في بدايتها نابعة من حب وحرص، ولكنها مع استمرارها حتى يكبر الطفل يمكن أن تترك آثاراً سلبية في جوانب شخصيته، ونموّه النفسي والاجتماعي.
ولكن هناك حالات يكون سبب التعلق هو تصرفات الأهل مع الطفل:
- الصراخ والإهمال والفجائية في الابتعاد ظناً منهما أنها الحل لفك الترابط، لكنها للأسف تجعل الطفل يشعر بأنه مرفوض وغير آمن.
- التعامل الحاد، وكذلك خداع الطفل بالهرب منه والعائلة، قد يشعر الطفل بالخيانة والفقد.
- عندما يعود الوالدان بتصرفات مبالغ فيها من الحنان والاهتمام كوسيلة لتعويض الغياب ستزيد في الوقت نفسه التعلق.
- قد يكون التعلق الزائد بسبب تمييز الأبوين أحد الأطفال على الآخر، فيزيد من تعلق الطفل الذي ينقصه الحنان والاهتمام بشكل زائد، كردّ فعل عكسي على نقص الأمان والطمأنينة لديه.
- كثرة لوم الطفل وتحذيره من تصرفات معيّنة في أوقات الغياب يجعله يخاف ويشعر بالتعلق.
أما عن الآثار السلبية لهذه التصرفات:
- التعلق الزائد يؤثر سلباً في نمو الطفل ويجعل خبراته الحياتية قليلة جداً بسبب اعتماده الزائد، وعدم استقلاليته عن والديه.
- يدخل الأبناء في مشكلات كبيرة مستقبلاً، بخاصة عندما يكبرون وتلزمهم الحياة بالانفصال والاستقلال، بسبب الزواج، والعمل، والسفر.

نصائح لفك الترابط مع الطفل شديد التعلق
أما الدكتور هشام عبد الرحمن، استشاري الطب النفسي للأطفال وتعديل السلوك بالقاهرة،
فيقدم مجموعة من النصائح لعلاج التعلق غير الصحي والمفرط بالوالدين، من أهمها:
- التمهيد للطفل قبل حدوث أيّ انفصال أو غياب عنه، لأن الطفل لا يخاف من الانفصال بحد ذاته، ولكن من المفاجأة، لذا يحتاج إلى التمهيد.
- تدريب طفلك على الانفصال لفك الترابط ولكن بشكل تدريجي، مثلاً ترك الغرفة ثلاثة أو خمس دقائق، ثم زيادة المدة لعشر دقائق، وهكذا.
- تثبيت في عقل الطفل وذاكرته لحظات وداع محببة مثل حضن، أو قبلة من القلب.
- في الأماكن العامة لا تنشغلا عنه، ولا تتركاه فجأة، بل اتفقا معه على اللعب والابتعاد تدريجياً، ويكون على علم بذلك، ومن الهام أن يلعب الطفل في وقت الغياب مع أطفال من نفس العمر.
- الحفاظ على التوازن بين الاهتمام وتشجيع الاستقلالية يساعد الطفل على تطوير مهاراته وثقته بنفسه.
- بناء روتين يومي متكرر وثابت يجعل الطفل يشعر بالأمان والطمأنينة، والتوقع، ويقلل من الصدمات، ويخفف قلق الانفصال، مثل قصة ما قبل النوم، ووداع خاص قبل الخروج مثل العناق، أو استخدام الجمل المطمئنة.
- الأم الواعية تفك التعلق المرضي لدى الطفل وتزرع الاستقلال بالتدريج ولكن من دون أن نشعر الطفل بأنه مهجور، أو منبوذ.
- الاحتواء العاطفي الذكي، فالعناق الهادئ أفضل بكثير من الكلام الزائد، كما أن المشاعر لا تقاوم بالصراخ أو التجاهل، بل يجب العناية بها بشكل صحيح.
- من الهام الثبات العاطفي للوالدين في لحظات الانفصال لأن التردّد والشعور بالذنب يزيد من قلق الطفل، ويوتره أكثر.
- تواصل الأهل والأقارب مع الطفل في غياب الوالدين بشكل إيجابي يقلل من مشكلة التعلق.
- من حق الأم والأب أن يحافظا على مساحتهما الخاصة، وأن يخصصا لنفسيهما أوقاتاً لا يتشاركان فيها مع الأبناء، كما أن ذلك يكون جيداً لكسر التعلق المرضي، فمثلا يخرجان للتنزه وحدهما، أو يسافران إلى مكان ما.
وأخيراً، بعض الأطفال يعبرون عن احتياجاتهم من خلال إثارة المشكلات، أو التذمر، بينما يظهر البعض الآخر تعلقاً مفرداً، أو خوفاً، ولكن الطفل الذي يشبع عاطفياً يتعلق باعتدال لأنه مطمئن، وكذلك محبوب دائماً. لذلك يجب تفريغ العاطفة المكبوتة لديه في أوقات الهدوء بتخصيص، على سبيل المثال، 15 دقيقة يومياً من دون هاتف، أو مشتتات، نتعامل معه خلالها بنظرات حانية، ونتقاسم الضحكات، ونتبادل الأحضان. كما أن فك التعلق والارتباط الزائد بالأبوين لا يتم بين يوم وليلة، ولكن بشكل تدريجي، وقد يستغرق الأمر بعض الوقت، ويحتاج إلى صبر.
اقرأ أيضاً: كيف نبني علاقة قوية مع الأبناء؟