23 سبتمبر 2025

الحكواتية د. لمياء توفيق: القصص «تمرين على الحياة» بلغة الطفل و«أول درس حب» بلسان الأهل

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

لا يمكن للكتاب أن يخبو ألقه وثمة «حكواتية» تعيد رسم الكلمات بأسلوبها، وتحاكي الأفكار المعلقة برؤوس الأطفال. فعلى الرغم من سطوة الشاشات الإلكترونية، تكشف الحكواتية والممثلة ومدربة الحياة المعتمدة للأطفال، الدكتورة لمياء توفيق، كيف يمكن للقراءة أن تكون «علاقة حب تُزرع منذ الطفولة»، بحيث تتحوّل القصة إلى «أداة للتعبير، والتسامح، والشفاء من مشاعر الخوف والغضب».

وبين دفء الحكاية، وسحر الكتاب، ودعم الأسرة، تقدم د. لمياء توفيق، دكتوراه في دراسات الطفولة، وصفة تربوية وحياتية تجمع بين اللعب والتعلم، مركزة على كون القصص والكتب «تصنع فرقاً في بناء إنسان سليم، واعٍ، وواثق».

مجلة كل الأسرة

كيف تُسهم الحكايات والقصص في تشكيل وعي الطفل الثقافي في ظل العولمة؟

تجيب د. توفيق: «كلما كانت القصص متنوعة، وأكثر شمولاً، وكلما كانت الحكايات تأتي من مختلف أنحاء العالم، كلما ساعدنا الطفل على فتح نوافذ كثيرة لفهم الثقافات المختلفة. الكتاب يمثل جسراً مهماً جداً بين الثقافات المتنوعة، وهو يساعد الطفل على التعرف إلى ثقافته، وفي الوقت نفسه، على تقبّل الثقافات الأخرى. كلما قرأ الطفل عن ثقافات مختلفة، كلما أسهمنا في تشكيل وعيه الثقافي، وتعزيز فكرة التسامح لديه».

وتضيف: «من الهام أن يقرأ الطفل عن ناس يشبهونه، لكن في الوقت ذاته، يجب أن يكون هناك توازن بين قراءة الكتب عن ثقافته، وفتح الأفق لاستكشاف العالم بأسره. لا يمكننا أن نقتصر على ثقافته فقط، من دون أن نعرّضه لبقية العالم، كما لا يمكننا أن نجعله يعزل نفسه عن ثقافته الخاصة. هذا التوازن هام في تشكيل هويته، وتعزيز فهمه للتنوع والاحترام المتبادل».

مجلة كل الأسرة

وكانت الدكتورة لمياء توفيق قد شاركت في النسخة الأخيرة من مؤتمر«القراءة للمتعة»، الذي نظمته مؤسسة الإمارات للآداب، بهدف إرساء القراءة كدعامة أساسية في تنشئة الطفل، والارتقاء بمستواه الثقافي، ومخزونه اللغوي. ومن خلال مشاركتها أكدت أهمية «إعادة الاعتبار للكتاب كصديق عاطفي ومعرفي للطفل».

 وتوضح: «تتبدى أهمية المؤتمر في تركيزه على موضوع محدّد، وهو قراءة الأطفال في عصرنا الحالي، في ظل وجود الكثير من العوامل التي تشتت انتباه الأطفال، سواء كانت الأجهزة الإلكترونية، أو الانشغالات اليومية التي تؤثر في تركيزهم، وهذا يولّد تحدياً كبيراً للأهل والمعلمين في كيفية جذب انتباه الطفل وتشجيعه على القراءة. لذا، فإن موضوع «القراءة للمتعة» هام للغاية، لأنه لا يمكننا جعل القراءة واجباً مفروضاً على الأطفال. يجب أن يشعروا بالمتعة والإثارة لكي يتحمسوا للقراءة، ويستمتعوا بها».

وما هو تأثير «القراءة للمتعة» في الصحة النفسية للأطفال في عصر الشاشات والإدمان الرقمي؟

تشرح الحكواتية أبعاد الأمر: «تأثير التكنولوجيا في الصحة النفسية مرتبط بشكل كبير بكيفية استخدام الأطفال للأجهزة الحديثة. فعند استخدام الطفل للأجهزة لمشاهدة مقاطع الفيديو، أو الكرتون، فإنه يحصل على جرعة سريعة من المتعة والدوبامين، من دون الحاجة إلى بذل جهد. هذا النوع من الاستجابة السريعة يمكن أن يؤدي إلى تراجع في قدرة الطفل على التركيز، أو تحمّل الجهد عند قراءة الكتب، التي تتطلب وقتاً ومثابرة للاستمتاع بها».

وتستفيض د. لمياء توفيق بالشرح: «عندما يعتاد الطفل الحصول على المتعة السريعة من الأجهزة الإلكترونية، يصبح من الصعب عليه التكيف مع النشاطات التي تتطلب تفكيراً، أو وقتاً طويلاً، مثل القراءة. لكن، إذا تم دمج الكتاب في حياة الطفل منذ الصغر، واعتاد على متعة القراءة، فإنه يمكن أن ينمي حبّاً حقيقياً للكتب، حتى لو كان يستخدم الأجهزة الإلكترونية. إن تقديم الكتب للأطفال وتشجيعهم على القراءة يعزز من قدرتهم على التركيز والشعور بالمتعة التي تصحب القراءة، ويجعل من هذا النشاط عادة ثابتة لديهم حتى عندما يكبرون».

لا تجعلوا الأجهزة الإلكترونية تقطع صلة أطفالكم بالكتاب واستخدموا القصص لحل مشكلاتهم من خوف وغضب وتوتر

  معايير اختيار القصة المناسبة لعمر الطفل ونموه العاطفي

تشير د. لمياء: «عند اختيار كتاب لطفل، من الهام جداً أن نأخذ اهتماماته في الاعتبار، ونجعله جزءاً من عملية الاختيار نفسها. يمكننا مثلاً أن نسأله: «ما رأيك في هذا الكتاب؟ تحب أن نقرأه اليوم أو غداً؟»، بهذه الطريقة، يشعر الطفل بأن له دوراً في اتخاذ القرار، وأن الكتاب هو اختياره الشخصي، ما يعزز من رغبته في قراءته والتفاعل معه.

أما من ناحية النمو العاطفي، فالقراءة تلعب دوراً محورياً، من خلال النقاش مع الطفل حول القصة، مثلاً: «ما الذي شعرت به هذه الشخصية؟ ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانها؟ هل شعرت بالحزن عندما حدث كذا؟».

هذه الأسئلة لا تهدف إلى تقديم درس مباشر، كما تؤكد د. توفيق، بل «نفتح أمامه مساحة للتفكير والتعبير. هذه الطريقة تنمّي وعيه العاطفي، وتعلّمه أن يضع نفسه مكان الآخرين، وهي مهارة ضرورية للتعاطف والتواصل. وفوق ذلك، الكتب تسهم في بناء حصيلة لغوية ثرية، تساعد الطفل على التعبير عن مشاعره بدقة، ليس «أنا حزين»، أو «أنا سعيد» فقط، بل «أنا أشعر بالإحراج»، «أنا قلق»، «أنا محتار». هذا التنوّع في التعبير يعكس فهماً أعمق للمشاعر، ويمنحه أدوات للتعامل معها بطريقة صحية.

كثير من الأطفال لا يفتقرون إلى المشاعر، بل إلى الكلمات التي تساعدهم على التعبير عنها. لذلك، عندما نوفر لهم مفردات متنوعة وغنية، نمنحهم القدرة على التعبير والتواصل بوضوح، ما يعزز من صحتهم النفسية، ونضجهم الاجتماعي».

مجلة كل الأسرة

خطوات تحويل الطفل إلى «راوٍ مؤثر» داخل المنزل

تحدّد بعض معالم العلاقة التي تدعّم بالقراءة: «كلما قرأ الأب، أو الأم، مع الطفل، وبقلب مُحب وصادق، كلما شعر الطفل بالسعادة، وارتبط بالقراءة أكثر. هذه اللحظات الحميمة بين الوالدين والطفل تبني روابط لا تُنسى، تتجاوز بكثير مجرّد قراءة كتاب، لتصبح ذكريات تُشكّل وجدان الطفل. فعندما يكبر الطفل، ربما لا يتذكر كل القصص، لكنه سيتذكر صوت أمه وهي تقرأ، ورائحة الغرفة، صوت الأب وهو يقرأ القصة، ويقلب الصفحات، وتلك اللحظة التي ضحك فيها الجميع على جملة مضحكة في الكتاب. سيتذكر الدفء، والأمان، والحب المرتبط بالقراءة. هذه تجربة حسية متكاملة، وليست مجرد نشاط تعليمي».

وتؤكد بعض الخطوات:

  • من الهام ألّا يشعر الأهل بالحرج أو التردّد في تقليد الأصوات، أو التفاعل العاطفي مع القصة: هذا التمثيل الصوتي، والنقاش، والتعليق على الصور، يعمّق تجربة القراءة، ويجعل الطفل يعيش القصة بكل حواسه.
  • ربط بين ما نقرأه في الكتب وحياة الطفل اليومية: مثلاً: «أترى هذا الفطور؟ يشبه فطورك!»، أو «هذه الشخصية تحب القطط، مثلك تماماً!»، هذا الربط بين عالم القصة وعالم الطفل يعزز تفاعله، ويُشعره بأن الكتب تحاكي واقعه، وتعبّر عنه.
  • لا داعي للتسرّع: يجب أن يأخذ الآباء وقتهم مع كل صفحة. أن يسألوا الطفل عن الصور، أن يدعوه يتحدث، يتخيّل، يحلل.
  • يمكن أن تتحول القصة إلى نشاط ممتد: نرسم، نطهو، أو حتى نلعب تمثيلاً لمشهد من القصة. الهام أن تكون القراءة تجربة حيوية، ممتعة، ومتصلة بالحياة

وتوجز: «القراءة ليست فقط كلمات تُقال، بل هي علاقة تُبنى، وحب يُزرع. وهذا هو جوهر القراءة للمتعة».

مجلة كل الأسرة

هل يمكن استخدام الحكايات كأداة لتعزيز القيم المجتمعية والأخلاقية لدى الأطفال أو لحلّ مشكلاتهم؟

يأتي الجواب من د. لمياء توفيق «في هذه الحالة، نحن لا نقرأ القصة فقط، بل نستخدمها كأداة تربوية لتعزيز التفكير النقدي لدى الطفل. نقوم بإسقاطات ذكية على المواقف في القصة، فنطرح أسئلة مثل: «لو كنت مكان هذه الشخصية، ماذا كنت ستفعل؟»، أو «هل تعتقد أن تصرفه كان صائبًا؟»، بهذا الشكل، يتحول الكتاب إلى مساحة للنقاش والحوار، ويبدأ الطفل في التفكير في الخيارات، والنتائج، والتصرفات المختلفة. هذه الطريقة تساعده على بناء منظومة قيمية خاصة به، وتطوّر قدرته على التحليل واتخاذ القرار. نعم، هي قراءة، لكنها قراءة مستهدفة وواعية، نُدخل من خلالها الطفل في عمق القصة، ونحفّزه على أن يرى الأمور من زوايا مختلفة.

مجلة كل الأسرة

وما هي الكتب أو أنواع القصص التي تسهم في بناء الثقة بالنفس لدى الطفل؟

تعيد د. لمياء التأكيد على «مركزية» الكتاب، ودوره المحوري في بناء ثقة الطفل بنفسه، بخاصة عندما يرى نفسه ممثلاً في الشخصيات التي يقرأ عنها، سواء في مظهرها، أو مشاعرها، أو تجاربها.

تضرب مثالاً: «حين يقرأ الطفل عن شخصية تتحدث بصراحة عن مشاعر عدم الرضا عن شكلها، كأن تقول: «أعتقد أنني قصيرة جداً، وشعري مجعّد، وبشرتي داكنة، وأنفي عريض»، ثم يتابع كيف تعيد القصة تعريف الجمال من منظور آخر أكثر عمقاً، فإنه يتعلم أن قيمته لا تُختزل في مظهره الخارجي، بل في ما يحمله بداخله».

وتحّدد سياقات الكتب الواجب اقتناؤها وهي «الكتب التي تحتفي بالتنوّع، وتطرح مفاهيم شمولية للجمال تسهم في تعزيز تقدير الذات لدى الطفل. فهي تمنحه أدوات للتعبير عن مشاعره، ولرؤية نفسه والآخرين من منظور أكثر تقبلاً ورحمة. وهنا تصبح القراءة تجربة تعافٍ، تبني الهوية وتعزز الثقة، وتفتح باباً لقبول الذات، واختلافات الآخرين. لذلك، من الهام أن نختار لأطفالنا قصصاً تشبههم، وتشبه من حولهم، قصصاً تعكس تنوع الهويات، والأشكال، والثقافات، كي يشعر كل طفل بأن الجمال له أكثر من وجه، وأنه مقبول ومحبوب تماماً كما هو».

مجلة كل الأسرة

استراتيجيات تعامل الأهل مع الأطفال ثنائيي اللغة

ترى د.توفيق أنه «من الهام جداً، أن يتبنّى الأهل استراتيجيات واعية للحفاظ على التوازن اللغوي لدى الأطفال ثنائيي اللغة، خصوصاً في البيئات التي تهيمن فيها لغة على أخرى. وأحد أبرز التحدّيات هو غياب الحافز لاستخدام اللغة «الأضعف» في الحياة اليومية، ما يجعل من الضروري خلق هذا الحافز داخل المنزل. مثلاً، القراءة المشتركة بلغات متعدّدة تساعد الطفل على الربط العاطفي مع اللغة، وتمنحها معنى يتجاوز الوظيفة التعليمية. ليس الهدف أن تكون اللغة مفروضة، أو مرتبطة بالواجب، بل أن يشعر الطفل بأن اللغة هي وسيلة للتواصل، للمتعة، ولرواية القصص.

وتخلص إلى  توصيات عدّة:

  • أن يختار الطفل الكتب بنفسه، وأن يُشركه الأهل في عملية الانتقاء، ما يعزز حماسه للقراءة.
  • جعل لحظات القراءة مملوءة بالتفاعل، بالنقاش حول القصة، وطرح الأسئلة، وتمثيل الأصوات، ما يرسّخ اللغة في وجدان الطفل.
  • إتاحة الفرصة للطفل للتعرف إلى ثقافات أخرى من خلال القصص، بدلاً من التركيز فقط على الكتب التي تُمثّله ثقافياً، ما يوسّع أفقه، ويغرس فيه قيم التقبّل والانفتاح.
  • التوازن اللغوي لا يتحقق فقط بتوزيع الوقت بالتساوي بين اللغتين، بل بالارتباط العاطفي العميق مع كل لغة، كلغة حب ودفء وخيال.