
في عالم التربية نشجع دائماً على استخدام الكلمات الطيبة لتعزيز ثقة الطفل بنفسه، فنُكثر من عبارات مثل «أنت عبقري»، «أنت الأفضل دائماً»، ظناً منّا أننا بذلك نبني شخصية قوية قادرة على مواجهة الحياة، لكن ما لا يدركه كثير من الآباء والأمّهات، هو أن المديح الزائد رغم نواياه الطيبة، قد يتحوّل إلى سم ناعم يتسلل إلى نفس الطفل، فيضعف قدرته على التعلّم، ويجعله يربط قيمته الذاتية برأي الآخرين، لا بجهده، أو سلوكه الحقيقي.
تشاركنا الرأي الدكتورة زينب عبد العال، أستاذ علم النفس بجامعة أبوظبي، ومدرّبة ومستشارة معتمدة في مجال الإرشاد النفسي والأسري، قائلة «في حياتنا اليومية، نتبادل عبارات المديح والإطراء بهدف نشر الإيجابية وتحفيز الآخرين، لكن ليست كل كلمات الإعجاب بريئة، فهناك ما يُعرف بالمديح السّام، وهو نوع من الإطراء يبدو في ظاهره إيجابياً، لكنه يخفي وراءه نوعاً من الإيذاء، ربما يكون مقصوداً، أو غير مقصود، مثل «أنيقة ملابسك اليوم وليس مثل العادة»، ففي الظاهر هي عبارة إعجاب، لكنها تحمل نقداً ضمنياً، أو مقارنة تنتقص من قيمة مستقبلِها».

متى يتحول المديح إلى أداة هدم في التربية؟
«التربية الواعية تقوم على إدراك كيفية مدح الأبناء بطريقة تحفّزهم، من دون أن تضرّهم، فالمبالغة، أو ربط المديح بشروط قد يترك آثاراً سلبية طويلة المدى....
ومن أمثلة المواقف الشائعة التي يتحول فيها المديح من دعم إلى ضرر:
- المبالغة وعدم الواقعية: مثل «أنت أذكى طفل في العالم»، ما قد يضع الطفل تحت ضغط دائم ويجعله يخشى الفشل. أو «أنت دايماً شاطر» قد يجعله يخشى الفشل، أو يشعر أنه فقد قيمته إذا أخطأ، وربما يدفعه ذلك إلى الغرور.
- أما عبارة «أنت طيّب جداً مستحيل تزعل»، فتزرع بداخله شعوراً بالذنب إذا عبّر عن غضبه، أو رفضه، وتعلّمه كبت مشاعره من أجل القبول الاجتماعي.
- كذلك «أنت أجمل واحد وكل الناس يغاروا منك»، فإن الرسالة الضمنية التي يتلقاها هي أن قيمته مرتبطة بمظهره الخارجي، ما يدفعه إلى مقارنة نفسه بالآخرين باستمرار، وربط ثقته بنفسه بمقاييس الجمال فقط.
- وهناك أيضاً المديح المشروط كقول «أنا أحبك لأنك شاطر»، فيشعر الطفل بأن الحب مرتبط بإنجازاته فقط.
- وأيضاً مدح الهوية بدلاً من الجهد: مثل «أنت عبقري»، بدلاً من «أعجبني اجتهادك في واجباتك»، ما يخلق خوفاً من المحاولة إذا شك في نفسه.
- بجانب المديح وربطه بالمكافأة: مثل «رتب غرفتك لتحصل على شوكولاتة»، ما يجعل الطفل معتمداً على التحفيز الخارجي.
- إضافة إلى المقارنة بالآخرين: مثل «أنت أشطر من أخيك»، ما قد يزرع الغرور، أو الغيرة السلبية داخله».

سلوكات تدل على أن طفلك يعاني نفسياً من المديح السام
هناك بعض العلامات والسلوكات التي قد تشير إلى أن الطفل يعاني آثار المديح السام، أو المفرط، أو غير الواقعي، أو المشروط، والذي يربك فهمه لذاته، ويؤثر سلباً في نموه النفسي، توضحها الدكتورة زينب:
- تضخم الأنا، أو الغرور، ورفض النقد والشعور بالإهانة عند التوجيه، فهو يظن أنه دائماً الأفضل والأذكى.
- الخوف من الفشل فيتجنب المحاولة في الأنشطة الجديدة، ما يجعله يربط قيمته بالنجاح فقط.
- انعدام الدافعية الذاتية لديه فلا يبذل مجهود، إلا إذا توقع مدحاً، أو مكافأة تشعره بالرضا الداخلي.
- القلق الزائد من رأي الكبار، بخاصة الآباء والأمّهات، فيحاول إرضاءهم بأي ثمن، ولو على حساب نفسه.
- المقارنة الدائمة بالآخرين ويغار بسهولة من نجاحات أقرانه.
كيف يمكن للأهل إصلاح آثار المديح المفرط؟
إصلاح الآثار التراكمية الناتجة عن سنوات من المديح المفرط ليس سهلاً، لكنه ممكن ويتطلب وعياً، وصبراً، واتساقاً في التربية.
وهناك خطوات عملية توضحها د. زينب عبد العال، تساعد الأهل على تصحيح المسار:
- تعليم قيمة الجهد والتعلم من الخطأ: امدح المحاولة والاجتهاد حتى إن لم تكن النتيجة مثالية.
- تعزيز التقدير الذاتي الداخلي: ساعد الطفل على التعرّف إلى نقاط قوته وضعفه بنفسه، واسأله «ما أكثر شيء أعجبك في إنجازك؟»، فلا ينتظر الثناء، بل يُقيّم ذاته بصدق.
- استخدام الحوار لتوضيح المصطلحات: تحدّث مع الطفل عن معنى النجاح الحقيقي، وقيمته الذاتية، والفرق بين الثقة والغرور.
- استبدال المديح الخارجي بالتقدير الواقعي (الوصفي): بدلاً من قول: «أنت عبقري»، قل له: «لاحظت كيف ركزت في حل المسألة رغم صعوبتها»، فهذا ينقل التركيز من الهوية إلى الجهد والسلوك.
- الاعتراف بالمشكلة من دون جلد الذات: عند إدراك أن المديح المفرط ترك أثراً سلبياً لا حاجة للوم النفس، بل التركيز على إعادة التوازن في التربية.
- إشراك المدرسة أو المختصين: في الحالات التي يظهر فيها اعتماد كبير على المديح، أو ضعف في تحمّل الفشل، أو الغرور الزائد، قد يكون من المفيد، استشارة مختص نفسي تربوي.

نصائح لتربية طفل واثق بنفسه من دون تعزيز الأنا الزائفة
- علّم الطفل تقبّل الفشل كجزء من النجاح، وناقش معه الأخطاء، وساعده على الوصول إلى النجاح من خلال المدح.
- تقبّل سلوكه واجتهاده ولا تشير لذكائه، فقل «أنا فخور بك لأنك تتعلم من أخطائك»، بدلاً من «أنت أذكى واحد في الفصل»، فهذا يعلمه قيمه اجتهاده من خلال محاولاته للوصول للنجاح.
- عوّد الطفل على تحمّل المسؤولية من خلال تكليفه بمهام تناسب عمره، يقوم بتنفيذها بنفسه مثل: ترتيب غرفته، اختيار ملابسه، وغيرها من السلوكات الحياتية.
- ساعده على بناء هويته الشخصية من خلال تقديم يد المساعدة على اكتشاف اهتماماته وهواياته، مثل (القراءة -الرسم –الموسيقى)، وغيرها، وامدحه على السلوكات الإيجابية والقيم، مثل الصدق والأمانة.
- كن قدوة لطفلك في الكلام والأفعال، فهو أكثر الناس ملاحظة لك، وأكثرهم تقليداً أيضاً.
وختاماً، فالتربية الإيجابية تصنع بيئة يشعر فيها الطفل بالأمان النفسي، ما يسمح له بأن يستفيد من النقد، ويتحمّس بالتحفيز، من دون أن يتضخم لديه الأنا، أو يشعر بالدونية، فالتربية الإيجابية منهج تربوي متوازن بين الدفء، والوضوح.