
الأم إما أن تصنع إنساناً أو تصنع كومة عُقد، فعلى الرغم من أن طبيعة الأم تجعلها منبع الحب والعاطفة والحنان والعطاء والتسامح، لكن للأسف تكون الأم أحياناً «سامة» ومدمرة لأولادها، لا تعطيهم كل ما سبق على الرغم من حبها الشديد لهم، إذ يكون هذا الحب مغلفاً بمشاعر ضارة تقضي عليهم وتصنع منهم مرضى نفسيين.
التربية تحتاج من الأم وقتها، وتحتاج صبرها وهدوءها.. فالتربية ليست أكلاً وشرباً ولبساً، التربية هي أن تسمعي له وتدعميه وتعلّميه كيف يعيش كإنسان سوي، لذلك أنت من تختارين إلى أي نوع من الأمهات تنتمين. الأم هي التي تمنح أولادها الحياة، وليس تلك الأم التي يصعب التعامل معها لأنها لا تعرف كيف تحب، ولا تعطي أبناءها أي شيء سوى المشاعر السامة، ولا تعرف كيف تكون أماً، بل حتى مشاعر الأمومة باعتبارها غريزة فطرية لا تعرف كيف تمارسها. وما أقسى أن يتربى الأبناء في بيئة لا يشعرون فيها بالحب والحنان والطمأنينة، بيئة النقد والعنف والكراهية والحقد والحسد والغيرة. وماذا نتوقع عن نشأة هؤلاء الأولاد؟ بالتأكيد سيكون فيهم الكثير من العقد التي وضعتها الأم في أبنائها.
سألت «كل الأسرة» عدداً من خبراء العلاقات الأسرية والتربويين حول الأم المدمرة «السامة»: كيف يمكن التعامل معها؟ وكيف تعرف الأم أنها تدمر نفسية أولادها؟ وكيف يمكن لكل أم أن تتجنب الوقوع في هذه المشكلة؟

الأم المدمرة: نفسي أولاً
في البداية، يؤكد الطبيب النفسي الدكتور مهاب ماجد، استشاري علاج الأسر والأزواج من جامعة عين شمس بالقاهرة، أنه بالفعل توجد أم مدمرة، فالأم أحياناً تمر بضغوط أو لا تعلم كيف تربي، وأحياناً على حسب ما تلقت من تربية تربي بها أولادها، ويقول «نعم هناك أمهات يسيطرن على البيت والأبناء سيطرة تامة، ذلك النوع من الأمهات اللاتي يصدرن أوامر يجب تنفيذها أياً كانت، سواء في صالح الولد أو البنت أم لا، فهذا آخر همها، المهم أنها هي فقط على صواب، ومع الأيام تكتشف أنها كانت مخطئة، ولكن بعد فوات الأوان، وتكون الخسائر فادحة يوم لا ينفع الندم».
ويستطرد: «ودائماً ما أطرح أسئلة على الأم تسألها لنفسها وأقول لها: هل سألت نفسك ماذا يقول عليك أولادك بينهم وبين أنفسهم؟! ويا ترى ماذا سيقولون بعد زواجهم واستقلالهم بحياتهم؟ هل سيشتاقون إليك أم يحمدون ربهم على أنهم تخلصوا منك ومن ظلمك؟! هل سيكونون أشخاصاً أصحّاء أسوياء أم معقّدين ومنحرفين؟ هل بناتك وأولادك شبعوا حباً منك أم ينفذون تعليماتك خوفاً منك فقط؟»
ويصف الاستشاري الأسري الأم القاسية بأنها تلك الأم التي يجب إرضاؤها بأي طريقة اتقاءً لشرها الغاضب والمدمر، وهي أيضاً تلك الأم التي تلتهم أبناءها إذا ما حاولوا الخروج عن طوعها، أو الأم التي تلتهم كل ما تتخيل أنه قد يؤذي سطوتها أو قد يختزل من سلطتها الحامية لهم والمهيمنة عليهم.
هذه الحالة النموذجية موجودة في مجتمعاتنا، الأم تكون متخوفة من أي فكرة أو مشروع فيه تهديد لخروج ابنها، وليس لديها سوى «لا تسافر، لا تهاجر، لا تسبح، لا تغرق، لا تصاحب»، والتهديد بالغضب عليه وتفعيل زر الذنب.
ويشير الدكتور مهاب ماجد إلى أن مشكلة الأم القاسية والسامة لا تتوقف عندما ينفصل أولادها عنها ويبنون حياة خاصة بهم، بل تتدخل في الحياة الزوجية لابنها، وتكره زوجة ابنها، ولا يكون عندها مشكلة في تدمير حياته الزوجية كي يعود إلى حضنها، والسبب في هذه الحالة المرضية هو الخوف من الوحدة، لذلك تحاول أن تبني علاقة اعتمادية متبادلة، بحيث يبقى الابن بحاجة إليها وهي بحاجة إليه.
سبب وجود هذه الحالة المرضية هو عدم تحقيق الذات، لأن المرأة كائن ضعيف، فتشعر بأنها تحولت للاشيء بعد انتهاء دورها كأم. للأسف هذه الحالة لا تُنتج رجالاً، وإنما تنتج أطفالاً، فالرجل يسعى لرضى أمه ليتجنب الذنب، ويعتمد عليها في قراراته لأنه غير ناضج ولم يختبر الحياة، لا يعرف الصواب من الخطأ.

13 علامة تكشف لك أنك أم سامة ومدمرة
وتتفق معه الدكتورة سهام حسن، استشارية نفسية الطفل وخبيرة تعديل السلوك بالقاهرة، في أن الأم المدمرة تكون في الأساس شخصية نرجسية من الأمهات اللاتي يحببن السيطرة والتحكم في أبنائهن وبناتهن خلال مراحل الحياة كلها، علاوة على ذلك وللأسف الشديد قد يتعرض أبناء هذه الأم إلى العديد من المشكلات النفسية في حياتهم.
وترى الدكتورة سهام حسن أن سلوكيات الأم النرجسية المدمرة لأولادها مع أبنائها تتضمن العديد من الأمور التي تعكس اهتمامها الشديد بنفسها واحتياجاتها الشخصية على حساب احتياجات أبنائها، منها:
1. الانشغال بالمظهر الخارجي: الأم النرجسية مهتمة بمظهرها الخارجي بشكل مفرط على حساب رعاية أطفالها.
2. التحكم والسيطرة: تحاول الأم السامة فرض سيطرتها على أطفالها وتحديد حياتهم بشكل مفرط، وصد وإبعاد أي صداقات يمكن أن تُخرج أبناءها من حيز سيطرتها، حتى ولو زوجات وأزواج أبنائها وبناتها.
3. الأنانية أهم صفاتها: حيث تظهر الأم السامة سلوكاً أنانياً وتضع احتياجاتها الشخصية ورغباتها قبل احتياجات أطفالها، وتقوم بالاستحواذ وامتصاص جميع إنجازات أفراد الأسرة لنفسها نظراً لقناعتها باستحقاقها المتفرد لكل تقدير وقيمة وتكريم وتشجيع وتفوق.
4. نقص التفاعل والدعم العاطفي: فالأم المدمرة غير قادرة على تقديم الدعم العاطفي والتفاعل الإيجابي مع أطفالها بشكل كاف.
5. تقديم الانتقادات والانتقام: فالأم النرجسية تتلذذ بشكل مفرط بالانتقادات المستمرة اللاذعة لتحطيم ثقة أطفالها بأنفسهم، وتبديل المواقف للانتقام منهم إذا لم يستجيبوا لرغباتها.
6. التلاعب والابتزاز الديني والعاطفي: أهم أسلحتها، حيث تستخدم الأم السامة العواطف والمشاعر للتحكم في سلوك أبنائها وضمان وجودهم الدائم داخل حيز السيطرة، وقد تحاول تشويه صورتهم عند الآخرين لتحقيق أهدافها الشخصية.
7. الحب والتقدير المشروط: حيث تمارس الأم القاسية التقدير والحب مثل الصفقات التجارية، حبها دائماً مشروط بتحقيق أبنائها رغباتها أو متطلباتها. وقد تجعلهم يشعرون بأنهم لا يستحقون الحب إذا لم يفعلوا ما يرضيها.
8. التقليل من قيمة الأبناء: فلا مانع لدى الأم النرجسية أن تُظهر سلوكاً عدائياً مستمراً تجاه أبنائها يشعرون من خلاله بعدم رغبتها فيهم وبأنهم عبء وعالة عليها، وأنهم لا قيمة لهم إلا بها.
9. الوجهان: الأم النرجسية أو السامة تكون ذات وجهين غالباً، تتعامل مع أولادها بوجهين، وجه الأم الرائع أمام الناس، ووجه السوء والشر في بيتها.
10. الصمت العقابي: أفضل الطرق التي تتعامل بها أسلوب الصمت العقابي مع أولادها، فهي طريقتها المفضلة لكسر إرادتهم وإرغامهم على طاعتها وتنفيذ رغباتها.
11. التفريق بين الأبناء: حيث لا تخجل تلك الأم التي لا تعرف العدل من اتباع سياسة فرق تسد، وتعمل على إفساد العلاقة بين الإخوة، وانتقاء الابن المطيع لتجنيده لدور الابن الذهبي.
12. الغيرة والحسد: الأم النرجسية تكون لها سلوكيات غير مفهومة، ففي الوقت الذي تكون فيه فخورة ومعتزة بالذكور فإنها تغار بشدة وتحسد بناتها جداً، وتعمل على منافستهن حتى في أدق المناسبات مثل حفلات الزفاف، وتعمل على التقليل منهن والتعامل معهن بندية الأنثى للأنثى.
13. التهديد والعقاب: حيث تمارس الأم النرجسية التهديد والوعيد والعقاب أحياناً لأبنائها، وقد يصل إلى التعذيب الجسدي.
وتشدد الاستشارية الأسرية د. سهام حسن على أن هذه السلوكيات وغيرها تؤثر بشكل سلبي في علاقة الأبناء مع والدتهم، وفي نموهم العاطفي والنفسي، كما تُخرج لنا أجيالاً غير سوية تدمر الأسرة والمجتمع.

نصائح للأم القاسية لإصلاح علاقتها بالأبناء قبل فوات الأوان
ومن جانبها، تؤكد الاستشارية الأسرية الدكتورة سالي الشيخ، المتخصصة في الاستشارات الزوجية والعائلية وتعديل السلوك بالقاهرة، أنه «لا شك أن الجميع يطمحون إلى الأفضل لأبنائهم، وهناك أوقات نعتقد أننا نقدم الأكثر مثالية لدعم وحماية أطفالنا، إلا أننا نتفاجأ بأن سلوكنا وخوفنا الزائد قد يؤديان إلى ضرر نفسي واجتماعي على غير ما هو متوقع».
وتقدم الاستشارية النفسية بعض النصائح للأمهات التي تساعدهن في تصحيح مسار العلاقة مع الأبناء لتتحول العلاقة بينهم من علاقة سامة ومدمرة إلى علاقة ناجحة ومشجعة، ومن أهمها:
- الأبناء يحتاجون بشكل أكبر إلى الحب والتشجيع والإيمان بقدراتهم، ومنحهم الثقة اللازمة لبناء حياتهم، لذا يجب أن نترك لهم مساحة حرية للدخول في تجارب محسوبة الأبعاد، لأن ذلك يشكل للطفل تحدياً مأمون العواقب. وفي نفس الوقت لا مانع من ممارسة الوصاية عليهم وقت الخطر الشديد، لكن الخوف الزائد بلا مبرر يحيطهم بقدر مبالغ فيه من الحماية ويضر بهم أكثر مما ينفع، ويؤدي إلى نشأة طفل ضعيف التصرف وذي قدرات حركية محدودة.
- التعلق المرضي للأم السامة وحرصها الزائد على حل أي مشكلة يجعل الطفل يعيش داخل كبسولة مغلقة صنعتها الأم تتوفر له فيها الحماية الخارجية، وبالتالي يعيش بمعزل عن أقرانه الذين يواجههم حتماً في المستقبل.
- استخدام الأم السامة أو القاسية أسلوب التهديد في كل صغيرة وكبيرة هو للأسف من أكثر وسائل العقاب كسلاً وسهولة، حيث تقوم الأم بتهديد ابنها بحرمانه من المصروف، ومن الهاتف، ومن زيارة الأقارب، ومن الخروج، ومن كل ما يحبه إذا صدر منه أي خطأ حتى ولو كان بسيطاً، ما يضر بالثقة والترابط بين الأم وأطفالها، فبدلاً من أن تشرح له أن هذا السلوك غير مقبول تعتمد على مضايقته وتعنيفه بشكل مؤذ له نفسياً.
- الابتسامة والحضن والقبلة: أهم الأمور التي تنساها الأم من شدة تحكّمها وقسوتها. وللتخلص من سلوكياتها السلبية عليها ألا تنسى الابتسامة في وجه الطفل، فابتسامتها تعني له الكثير، ودائماً ما نطالب الأمهات بحضن أولادهن وتقبيلهم، وأن يعبرن عن حبهن لهم كل يوم، فمهما كثر ذلك فهم في احتياج إليه دون اعتبار لسنهم، صغاراً كانوا أو بالغين أو حتى متزوجين ولديك منهم أحفاد.
- للأمهات: طفلك ليس له أي ذنب أن يتحمل نتائج يومك السيئ، أو مشكلاتك الشخصية، أو مشكلاتك مع الأب، أو في العمل، أو في الشارع. عليك أن تستمدي طاقتك الإيجابية من ابتسامة طفلك في الصباح وحاجته إلى حنانك في المساء، وأن تحاولي المزاح مع طفلك وتحمّل أخطائه الساذجة، فهي غالباً غير متعمدة.
- الأم التي تعتمد في تربية أبنائها على الصراخ والعصبية كوسيلة لفرض السيطرة عليهم، وتنتقدهم دائماً، وتبدو طوال الوقت غير راضية عن أي شيء يفعلونه قد تتسبب في الإرهاق النفسي والإحباط لأولادها، وقد يرغبون في الابتعاد عنها تماماً من أجل إيجاد السلام النفسي، فيلتصقون في الأب، أو الجد، أو الجدة، أو الخالة.
- ولكي تستطيع الأم التقرب من أبنائها عليها أن تلعب دور الصديقة المخلصة والمحبة التي تخاف على مصلحتهم، تخصهم بالنصيحة الصادقة البعيدة عن صيغة الأمر، فلا أحد منا يتقبل الكم الهائل من الأوامر المغلفة بالقسوة، واستخدام الأهل هذه الطريقة يؤدي إلى تعنّت الأبناء في آرائهم.
اقرأ أيضاً: كيف نتجاوز الآلام النفسية لظلم الوالدين دون عقوق؟